أصبح إعادة إعمار غزة بعد سلسلة الدمار التي لحقت بالقطاع طوال ما يناهز عامًا من الحرب، حلما صعبا في ظل تشابك الأحداث واستمرار سياسات الاحتلال العدائية ضد الشعب وغياب أفق الحلول السياسية.
فقد خلفت 11 شهرًا من الحرب على غزة دمارا هائلا مع استمرار العمليات العسكرية الإسرائيلية، بعد الهجوم الذي قامت به حركة حماس في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، وفقد أكثر من مليون شخصًا لمنازلهم، وفقا لبيانات البنك الدولي، وتعرض ما يقرب من 90% من المرافق الصحية للأضرار أو للتدمير، ودُمرت المدارس أو تحولت إلى ملاجئ للنازحين، بل وتدمرت كل وسائل الحياة في القطاع.
ولم يتضح بعد حجم الدمار والموت الذي ستتحمله غزة قبل أن يحل السلام في القطاع المضطرب، ولا طبيعة المجتمع الذي سيخرج من رحم الصراع، إلا أن الأمم المتحدة قد أشارت إلى أن إزالة 40 مليون طن من الركام الذي خلفه القصف الإسرائيلي قد تستغرق 15 عاماً، وتتكلف ما بين 500 إلى 600 مليون دولار، وأن إعادة بناء المنازل المدمرة في قطاع غزة ربما يتكلف أكثر من 80 مليار دولار وقد يستمر حتى عام 2040 على الأقل، وقد يطول الأمر لعدة عقود.
أما عن إعادة الروح للمنازل المدمرة جراء الحرب، والتي فاقت 80 ألف منزل أو بناية، نتج عنها نزوح 1.9 مليون شخص على الأقل في أنحاء قطاع غزة، فهذا قد يكون من الصعب بل والمستحيل، فكما قال المثل الشائع: فإذا أعادوا لنا الأماكن فمن يعيد لنا الرفاق؟
وذكر تقرير للأمم المتحدة والبنك الدولي أن الأضرار التي لحقت بالبنية التحتية تقدر بنحو 18.5 مليار دولار، وأثرت على المباني السكنية وأماكن التجارة والصناعة والخدمات الأساسية مثل التعليم والصحة والطاقة، كما ذكرت أن مدينة غزة فقدت تقريباً كل قدرتها على إنتاج المياه؛ إذ تعرّض 88 في المائة من آبار المياه بها و100 في المائة من محطات تحلية المياه لأضرار أو تدمير، وأظهرت صور الأقمار الاصطناعية التي حللتها الأمم المتحدة أن أكثر من نصف الأراضي الزراعية في غزة، والتي تعد حيوية لإطعام السكان الجوعى في القطاع الذي مزقته الحرب، تدهورت بسبب الصراع، وكشفت البيانات زيادة في تدمير البساتين والمحاصيل الحقلية والخضراوات في القطاع الفلسطيني، حيث ينتشر الجوع على نطاق واسع بعد 11 شهراً من القصف الإسرائيلي.
أما عن المدارس والجامعات ودور العبادة، فتسببت الحرب في تدمير 200 منشأة حكومية و122 مدرسة وجامعة و610 مساجد وثلاث كنائس، وكذلك 90% من المرافق الصحية للأضرار أو للتدمير، فحجم الدمار هناك يتطلب تسوية سياسية عاجلة وخطة شاملة وتوحد أبناء فلسطينين ماديا ومعنويا في الداخل والخارج لإعادة إعمار غزة، وإخراج القطاع من رحم المجاعة والمعاناة اليومية.
وإذا توقعنا هدوء الأحداث والوصول إلى تسوية سياسية بعيدا عن حماس التي لفظها شعب غزة، فمن الممكن البدء بإعادة إعمار البيوت والأحياء السكنية ثم المستشفيات ودور العلم والمدارس، ومن ثم التركيز على الاقتصاد الذي ينزف، من خلال دعم النشاط الزراعي ودعم المؤسسات الصغيرة ومتناهية الصغر، واعطائها منحا طارئة ودعم الأجور كجزء من عملية استعادة النشاط وتسهيل التعافي الاقتصادي المحلي، وتطبيق استراتيجيات اقتصادية تهدف إلى حياة كريمة للشعب وتحقيق النمو للاقتصاد ككل.
ومن المهم هنا أيضا دعم المنظمات الدولية، بضخ أموالا إلى قلب اقتصاد غزة وإعادة الروح له مجددا، حتى تعود الحياة بشكل تدريجي ويعود معها الأمل في النجاة والعيش في سلام، ويجب أيضا أن تتجه المنظمات الدولية إلى توسيع برامجها القائمة وتدشين مشروعات جديدة لخلق فرص العمل ودفع جهود التنمية الاقتصادية، مع الاهتمام بشكل أكبر بدعم القطاع الخاص، وحماية الفئات الضعيفة، بجانب وضع إطار لمشروعات محتملة تماشيًا مع خطة الأمم المتحدة المرتقبة بشأن إعادة الإعمار في قطاع غزة. إذ يجب أن تتماشى جهود إعادة الإعمار المزمعة مع الأولويات الوطنية بغية ضمان قدرة برامج العمل المختلفة على تأمين فرص عمل لائقة لجميع الفلسطينيين.
لكن أكثر ما يبشر ويفتح آفاق الأمل، هو أنه على الرغم من تعقيد الوضع، فإن الدول العربية والأجنبية تدعو إلى وضع خطة شاملة لقطاع غزة، ويعمل مسؤولو السلطة الفلسطينية منذ أشهر على وضع خطط لإعادة إعمار القطاع، وطلب الدعم وتنسيق جهود إعادة الإعمار، بالتعاون مع المؤسسات الدولية، ومنظمات الإغاثة، ومختلف الوكالات التابعة للأمم المتحدة التي تتفاوض على أنظمة الإمداد والطرق الإضافية وعززتها بهدف تيسير وتسريع تدفق الإمدادات إلى غزة بشكل مستدام وشفاف، مع التأكيد على أهمية عدم تأخير عملية تعافي القطاع، و إمداداه بالخدمات الأساسية مثل التعليم والرعاية الصحية والإسكان، بشكل عاجل لحين عودة الحياة الكاملة له.
ربما يستمر التعافي بقيادة إنسانية لمدة عامين على الأقل حتى يكون هناك مستوى معين من الاستقرار والثقة الذي يسمح للناس بالعودة وإحياء أعمالهم، وفي النهاية فمن السابق لأوانه تحديد تكلفة إعادة بناء غزة، لكن تبقى إرادة الشعب والمجتمع الدولي في تمويل عشرات المليارات من الدولارات من الاستثمارات لإعادة الإعمار هي الحلم الوحيد لإنقاذ هذا الشعب واستعادة الأمل.