الحريّةُ قيمةٌ مُطلَقة.. ويكادُ لا يكونُ لها من مَسالِب ملموسةٍ، أو مُدرَكةٍ؛ إذا اعتُمِدَتْ بحكمةٍ، وأُخِذَتْ بمسئولية. تقول بذلك نواميس الكون وكل الشرائع السماوية، ولا يمكنها أن تقول بغير ذلك حتى الشرائع الوضعية. والحُرية إن لم تكن رُكناً من أركان الإسلام الذي هو رسالةُ السماء، فهي - وبحقّ - شرطٌ من شروط الدخول إليه؛ و هو شرطُ تحريرِ الإرادةِ وإخلاصِ الوُجهةِ لله. ولكن تحقيق الحرية في دوائرَ اجتماعيةٍ واسعة كالدوَلِ والأُمَم ِيستلزِمُ آلياتٍ للوصول إلى تطبيقٍ واقعيّ وملموسٍ لتلك الحرّية. والنظام المعمول به في حُكم شعوب العالم اليوم الذي يتحرَّى تحقيقَاً أفضَلَ للحرية هو النظامُ الديمقراطيّ، وأهمّ آلياتِهِ " صندوق الانتخابات". ولكنْ عندما يصل الناخِبُ إلى ذلك الصندوق؛ فهل يمكننا أن نفترضَ عندها أنّ الحرية في ذِهنِ ذلك الناخبِ هي بالفعل القيمة الأسمى لديه؛ دون قيمةِ تلبية حاجاته الأساسية، ومصالحه المادية الحياتية؟ لا شك أنه في المجتمعات الفقيرة والنامية فإن واقِعَ الحالِ يقولُ بأنّ قيمة الحرية في ذهن الفرد تتخلّفُ – ولو نسبياً - في ترتيب الأولويات عن قيمة تلبية الحاجات. لو انتقلنا لتطبيق ذلك على واقع الحالِ في سوريا بعد أيامٍ من تغيير رأس النظام فيها، فيمكننا أن ننطلق بالتحليل من نقطة تأتي من بَعد إبراز وتثبيت بعض الحقائق التي نتفق عليها أولاً، ومن ثم نَخلُص إلى ما يمكن أن تكون نقاط اختلاف: - لا شك أن القابعَ خلف قضبان السجن فإن قيمة الحرية لديه مُقَدَّمةٌ على أيّةِ قيمةٍ عداها. - و كذا مَنْ خرج من بلاده مُطارَداً، أو مُلاحَقاً؛ فإن الحرية في العودة إلى موطنه هي الأولوية التي لا يدانيها أولوية. - أما المُكتفِيُّ ماديّاً في موطنه، وهو مُلامِس ومُعايِش للحرية، أو شاعرٌ بها – أو حتى مُتَوَهِّمها - فلا شك أنّ قيمة تحقيق الأمن والاستقرارِ هي القيمة المُقَدَّمة لديه على كل القيم الأخرى المأمول أنْ تأتي بها رياحُ التغيير. - وأمّا المُواطنُ العاديّ؛ والذي يمثل الشريحة الأكبر في معظم المجتمعات النامية، فلا شك أنّ مصلحته الشخصية المادية هي القيمة الأعلى على كل مصلحة غيرها. لواستوعبنا مثل تلك المعطيات وذهبنا على سبيل الافتراض إلى صندوق الانتخابات في سوريا، فهل نحن مُتأكِدون بالفعل أنّ غالبية الشعب السوري حتماً ستختار التغيير؛ حتى ولو كان من أجل حرية مأمولة؟. حسناً، لو أخذنا مُعطىً إضافياً آخَرَ مُهمّاً؛ وهو أنّ حزب البعث العربي الاشتراكي في سوريا حتى الآن؛ كان هو أكبر وأرسخ تَجَمُّعٍ سوريّ مُنَظّم على مرّ عقود من الزمان، وأنه كان على كل عضو في ذلك الحزب التزامٌ، وفي كل عضوٍ منه وَلاءٌ له، ولديه مَصلحة معه - فهل يمكن أن يُحدِث ذلك في طرَفَي معادلة المعارضة والموالاة للنظام الموالي لحزب البعث، وكذا النظام الذي سيأتي بعده – شيئاً من التغيير يمكن أن يُرجٌّح طرفاً فيها على الطرف الآخر منها؟. ولا ننسى أنّ التغيير الحادث في سوريا هذه الأيام إنما جاء بالقوة المسلحة؛ ما يَنْزِع عنه صفة الثورة، بل إن رموز مَن جاؤوا به باتوا الآن يَنزِعون عن أنفسهم صفة ثوارٍ، وثورة، ويُبدلونها في خطابهم الإعلامي بوصف مجاهدين، ومعارضَةٍ مسلحة. فهل ترون مَنْ جاء بقوة السلاح يُمكِن أن يذهب ويأتي غيره بديمقراطية الصندوق التي هي آلية الديمقراطية الضامنة للحرية؟! - أمْ ترونَهم يَستبِدّون بالحُكم كسَلَفِهم؛ فيَصدُقُ فيهم وَصْفُ الأميركي بأنهم – أصلاً – جماعاتٌ إرهابيّةٌ مُصَنّفَةٌ ؟. إذا انتقلنا إلى البعد القومي والإقليمي ، فلا شك أنّ سوريا ليست جزيرة منعزلة وإنما لديها أبعاد قومية عربية وإسلامية، وإقليمية. فهل يخدُم هذا الحدث الهائل الحاصِلُ في سوريا اليوم قضية فلسطين ويَدعَمُ جبهةَ المقاومة؟ - وهو الذي جاء بتوقيتٍ يجعلُ من هجمات المحتل الاسرائيلي المتواصلة على غزة وفلسطين ضرباتٍ في مَقتَلٍ، و يصرف أنظار العالم عن حملات المحتل الغادر في الإبادة الجماعية، والتطهير العِرقيّ؟ وهل لدى نظامِ حُكم المعارضة المسلحة المُرتَقَبِ تَصوّرٌ مُسبقٌ لمستقبلِ قضيةِ الأرض العربية المحتلة في فلسطين والجولان؟ بل هل يُمكنه أن يحمي سيادة الأرض التي دخلها من الاعتداءات الاسرائيلية المتكررة عليها؟. و هل يضمن ولاء غالبية الشعب السوري لنظامه حتى يُمكِنه المُناداةَ بشعارِ "يدٌ تبني، و يدٌ تحملُ السلاح"؟. دَعُونا هنا نتفق على أهمية التغيير، وعلى قيمة الحرية، بجانب قيمة تلبية حاجات الإنسان الأساسية التي لا تتحقق بغيابها أيُّ حريّة. ولكن بعد ذلك التفصيل و التشريح، ألا يمكننا أن نتفق على أن توقيت تغيير نظام الحكم في سوريا لم يكن توقيتاً موفقاً؟ بل توقيتٌ يُثيرُ الشكَّ و الرَيبة، و نحن إذ نرى أنّ الصافرةَ التي انطلقت لإعلان وقف العمليات على الحدود اللبنانية هي ذاتُ صافرة انطلاق بَدءِ العمليات داخل الحدود السورية!. أليس توقيت دخول المعارضة المسلحة إلى دمشق و تغيير الحكم فيها، جاء تماماً في الوقت الأسوأ على امتداد الخط الزمني للمقاومة الفلسطينية في غزة منذ طوفان السابع من أكتوبر 2023وحتى اليوم؟. لا شك أن تغيير النظام في سوريا كان دوماً، و طوال السنوات الماضية قضية شائكة، و معقدة، و متشابكة. فما بالك عندما يجيء في زمنٍ رَخْوٍ كل ما فيه متحرك، ومتغير، ولا تكاد تنجو فيه دولة في المنطقة من أزمة. ولا أشك في أنّ أزمة أيّ نظام جديد في سوريا في هذا التوقيت الأسوأ - ستكون هي الأكبر والأخطر. وأن لا أمن ولا سلامة لسوريا وأهلِها وغزة وفلسطين، ولبنان اليومَ إلا بالله. كاتب و أديب مصري