السبت 27/10/1446 هـ الموافق 26/04/2025 م الساعه (القدس) (غرينتش)
"سرّ الموت".. الوجه الآخر للحقيقة.....ضرغام عباس

 

يقول نيتشه: "للأرض جلدها، وهذا الجلد له أمراض، وأخطر هذه الأمراض شيء اسمه الإنسان." قبل فترة قرأت كتاب "رسالة إلى الأختين" للكاتب والباحث عيسى مخلوف، حيث أشار في إحدى رسائله إلى كتاب آخر بعنوان "سرّ الموت". وذكر أنه وجده على هيئة مخطوطة تعود إلى القرن الثامن عشر، في إحدى المكتبات على ضفاف نهر السين.

تحكي هذه المخطوطة قصة غريبة: في الليلة الأخيرة قبل العشاء الأخير، وجد يهوذا الإسخريوطي نصًا مكتوبًا تحت وسادة المسيح. وكما هو معروف، فإن الحكماء لا يكتبون تعاليمهم على الورق، بل يفضلون أن تُنقل شفهيًا، لتتسرب مع الريح والماء، وتُحفر في الذاكرة. لكن هذا النص المكتوب كان استثناءً غريبًا.

بعد أن أكمل يهوذا قراءته، وقف مصدومًا. الكلمات التي قرأها لم تكن تُشبه تعاليم المسيح، بل جاءت على النقيض منها تمامًا. تساءل في نفسه: "إذا لم يكتب المسيح هذه الكلمات، فمن كتبها؟ ولماذا؟" لم يجد إجابة، لكنه كان متأكدًا من شيء واحد: هذا النص لا يجب أن يبقى طيّ الكتمان. وهكذا، قاده هذا الاكتشاف إلى اتخاذ قراره المصيري: الإبلاغ عن الرجل الذي سار حافيًا فوق الماء.

 

مقتطفات من المخطوطة

"الإنسان أشرس الحيوانات على الأرض. وهو الوحيد بين الكائنات الذي يقتل أبناء جنسه دون أن يحتاج إلى ذلك."

"الحيوان يقتل ليأكل. الإنسان يقتل للمتعة."

"طالما أن الأمر كذلك، وحده الغني يدخل ملكوت السماوات."

"اعبدوا ربّ المال."

"الخاطئة الوحيدة تُرجم بالحجارة."

"من ضربك على خدّك الأيمن، اضربه على خدّه الأيسر، واطعنه مرتين في قلبه، واجعله يرتعد من الخوف."

"لا رحمة ولا شفقة. اسحق الضعيف تحت قدميك."

"المظلوم يجب أن يظل مظلومًا، حتى لا يزداد في الأرض عدد الظالمين."

عندما قرأت هذه الكلمات لأول مرة، أحسست أن سحر العالم قد تلاشى. فجأة، وجدتُ نفسي أمام نسخة أخرى من الحقيقة، نسخة تُفسر ما نعيشه اليوم، كأن كل العصور تتصل بخيط واحد، وكل الأفكار تُعاد صياغتها وفق متطلبات الزمن.

لكن هناك شيء لافت: لماذا ينمو الدين في الطبقات الفقيرة أكثر من غيرها؟ ولماذا يصبح الفقر نفسه فضيلة، وكأن الغاية من الإيمان ليست النهوض بالحياة، بل التكيّف مع البؤس؟ يبدو أن بعض الأديان لا تؤسس للكرامة، بل لتوزيع العوز بينا الناس بالتساوي.

 

الموت كعقيدة

في المجتمعات المتطرفة، يصبح الدين وسيلة لإبادة كل من يختلف. لا مكان للأسئلة، ولا مجال للنقد، لأن كل كلمة تُقال باسم الإله تُصبح "حقيقة مطلقة". يتحدثون عن الجحيم أكثر مما يتحدثون عن الحياة، يُلقّنون الإنسان فكرة الموت حتى ينبذ الحياة نفسها. ثم، وبمنطق غريب، يُصبح القتل فعلًا يوميًا، كأنه حاجة بيولوجية مثل الجوع والعطش.

لكن هل يمكن للبشرية أن تتحرر من هذه "اللعبة"؟ أم أن الإنسان محكوم بإعادة إنتاج مأساته إلى الأبد؟

ما يجعلني أطرح هذا السؤال، هو أنني أرى كيف تتحوّل العقول في بعض البيئات الريفية إلى "روبوتات" مبرمجة، تكرر ما قيل لها دون تفكير. والريف هنا ليس مجرد مكان جغرافي، بل هو عقلية ترى التفكير خطرًا، والمعرفة مسًّا من الشيطان.

يقول إميل سيوران: "لأننا فشلنا في خلق إنسان يفكّر، لم يتكوّن لدينا شعب، بل تشكّل لدينا جمهور. جمهورٌ مصفّق، جمهورٌ لاعن، يصفِّق مرة، ويلعن مرة، لكنه لا يفكّر."

 

الإنسان وإغراء الألوهية

كل حديث عن الموت يخفي وراءه بحثًا عن الخلود. لكن، ماذا لو كان الخلود نفسه فكرة عبثية؟ هل سنستسلم لهذا المصير، أم أننا قادرون على خلق مصير آخر؟

على الإنسان أن يعيد تشكيل نفسه، أن يختبر حدوده، وأن يقرر أي إله يستحق العبادة. هل يستطيع أن يزيح صورة الإله القاسي، ليضع مكانها إلهًا أكثر رحمة؟ أم أن رغبته في التمرد ستدفعه ليحلّ محلّ الإله نفسه؟

إلا أن فكرة أن يتحسس الإنسان تاج الألوهية تعكس رغبة في تجاوز المحدودية المفروضة عليه، سواء كانت قيود دينية، اجتماعية، أو حتى فلسفية.

يقول ألبير كامو في الإنسان المتمرّد: "عندما يرفض الإنسان الإله، فإنه يحاول أن يصبح إلهًا بنفسه." لكن السؤال هو: هل الإنسان مستعد لحمل هذا التاج؟ أم أنه سيكرر أخطاء الآلهة التي صنعها بنفسه؟

ربما يكون هذا مجرد عبث آخر. فنحن في النهاية مجتمعات مرتاحة لكسلها، تمشي على خطى الأجداد بلا سؤال. نعيش في دائرة أزلية، حيث تدفن أمةٌ أمةً أخرى، وحضارة تقوم على أنقاض حضارة سبقتها.

وربما، مهمّتنا الكبرى ليست تغيير العالم، بل أن نحاول، على الأقل، أن نحصي الجثث.

 

ضرغام عباس – شاعر وكاتب عراقي 

 

2025-03-25