تُعد رواية (366) واحدة من أبرز المحطات في المسيرة الإبداعية للروائي السوداني أمير تاج السر، ليس فقط لأنها وصلت إلى القائمة الطويلة لجائزة البوكر العربية عام 2014، بل لأنها تشكّل مثالاً ناضجاً لما يمكن تسميته بـ"الواقعية السحرية السودانية"، حيث يلتقي الواقع القاسي بالحلم، وتتداخل اليوميات القاحلة مع العواطف المتفجرة، ويُعاد إنتاج المألوف في صيغة مدهشة.
تدور الرواية حول قصة حب عجائبية اختُزلت في مجموعة رسائل موقّعة باسم "المرحوم"، عثر عليها الروائي أيام مراهقته، لينسج منها عالماً تخييلياً ثرياً يمتد عبر 366 يوماً من عمر شخصياته. هذه السنة الكبيسة هي استعارة رمزية لدورة حياة كاملة، تتقاطع فيها مصائر الحب، الفقد، الطموح، والهلاك.
البنية السردية والأسلوب
أحد أهم العناصر التي تميز 366 هو البناء السردي المعتمد على التتابع الحلمي. فالشخصيات، كما يُقر الكاتب نفسه، لا تخضع لإرادته بل تسحبه وراءها؛ كأنها كائنات لها حياة مستقلة خارج الورق. هذه التقنية تجعل الرواية أقرب إلى عمل حي، نابض، يخلط الواقع بالوهم دون حدود فاصلة.
اللغة المستخدمة سلسة وعذبة، لكنها ليست سطحية؛ بل مشبعة بدلالات رمزية، تعكس صراع الشخصيات الداخلي والخارجي. أمير تاج السر بارع في توظيف التفاصيل اليومية الصغيرة، من أسماء الشخصيات إلى طبيعة أماكنها، لخلق بيئة روائية لا يمكن إسقاطها في أي سياق آخر سوى سياقها المحلي، السوداني تحديداً.
الشخصيات: بين الانسياق والتمرد
الشخصية المحورية، "المرحوم"، ليست مجرد كائن روائي؛ بل هي تمثيل مكثف لحالة الفناء العاطفي. هذا العاشق الذي يُفنى حرفياً في محبوبته أسماء، يتحوّل إلى رمز للفقد والانمحاء. بالمقابل، الشخصيات الثانوية ليست مجرد ظلال؛ بل تلعب أدواراً مساوية في تحريك الحدث، مما يمنح العمل عمقاً نفسياً واجتماعياً.
ميزة تاج السر هي تجنبه الكاريكاتور؛ فلا وجود لشخصيات كرتونية أو مسطّحة. الجميع هنا ينتمي إلى عالم متعدد المستويات، يتحرك بين القاع والبذخ، بين الهامش والمركز، في تناقضات تعكس بدقة البيئة الأفريقية-السودانية.
الثيمات الرئيسة والرؤى الفكرية
في قلب الرواية، نجد ثلاث ثيمات متشابكة: البؤس، الحب، والحلم. أمير تاج السر لا يقدمها كأفكار مجردة، بل كخبرات معيشة، متجسدة في حيوات شخصياته. كما نلمس حضوراً قوياً للبعد السياسي والاجتماعي، رغم أن الكاتب لا ينزلق إلى المباشرة الأيديولوجية؛ بل يقدم بيئة تعاني ظلمها الذاتي، وتسكت على قهرها.
الزمن هنا ليس مجرد إطار زمني؛ بل كيان حي. سنة كبيسة لا تكتمل إلا كل أربع سنوات، رمز لدورات الحياة المتعثرة، للحظات القليلة التي يتهيأ فيها المسحوقون لالتقاط أنفاسهم. المكان أيضاً ليس مجرد خلفية؛ بل ركن أساسي من الهوية الروائية.
المقارنة الأدبية والأسلوبية
يُشَبَّه أسلوب أمير تاج السر أحياناً بواقعية أمريكا اللاتينية السحرية، لكنه في الحقيقة ينتمي إلى واقعية سحرية خاصة به، تتغذى من بيئة السودان وتاريخه وألمه. يمكن القول إنه أقرب إلى باتريك زوسكيند في العطر منه إلى ماركيز؛ لأن اهتمامه منصب على كيمياء التفاصيل، وعلى تفاعل الشخصيات مع عوالمها الحسية.
التلقي الأدبي والقيمة العالمية
رغم أن الرواية لم تصل إلى القائمة القصيرة للبوكر، إلا أنها نجحت في الوصول إلى قلوب القرّاء، ليس في السودان فقط، بل في العالم العربي كله. الإشكال الأكبر هنا هو قلة الترجمة إلى اللغات العالمية، مما جعل أعمال أمير تاج السر لا تأخذ بعداً دولياً مستحقاً. لو توفرت لها ترجمة دقيقة، لأمكن أن نجد فيه صوتاً موازياً لماركيز أو همنغواي، لكن بخصوصية سودانية لا تخطئها العين.
الخاتمة والتوصيات
رواية 366 عمل استثنائي يجب أن يُقرأ بعين الناقد والقارئ معاً؛ لأنها ليست مجرد قصة حب أو معاناة، بل نص مركب يمتحن ذائقة القارئ، ويشركه في لعبة سردية معقدة وممتعة. من المهم أن يُعاد النظر في ترجمة أعمال تاج السر إلى اللغات الأجنبية، وأن يُدرّس هذا العمل ضمن مساقات الأدب العربي المعاصر، كنموذج على الرواية السودانية الحداثية.
أمير تاج السر ليس مجرد حكّاء مبدع، بل صانع عوالم. في 366 نلمس قمّة نضجه الفني، وقدرته على الموازنة بين المتعة الحكائية والعمق الفكري، بين سلاسة السرد وتعقيد الرؤية. إنها رواية تستحق أن تُقرأ أكثر من مرة، وفي كل مرة يُكتشف فيها شيء جديد.