الخميس 23/10/1445 هـ الموافق 02/05/2024 م الساعه (القدس) (غرينتش)
إيديولوجيا التظلم: إسرائيل والعرب...صالح الرزوق

تناول حمزة عليوي في مقالته عن سرد الدولة الفلسطينية آراء أحمد الزبيدي عن الموضوع*. وأخذ عليه نقطتين. أنه اختزل الرواية العربية باحتكار ثلاثة أسماء لها وهم نجيب محفوظ وغائب فرمان وفؤاد التكرلي. وأنه أكد تقصير هؤلاء فيما يتعلق بفلسطين. الأمر الذي أدى إلى نجاح سردية اسرائيل وموت دولة الشعرية الفلسطينية. لا شك أن هذا الحوار - مع أنه من جانب واحد - مقنع ومفيد، فهو يلقي حجرة صغيرة في بركة هائجة شغلتني منذ أن فتحت عيني على الساحة الأدبية.

وإذا حصرنا الكلام بسوريا، يمكن أن أقول دون أي تردد إن مشروع الرواية السورية يدين لفلسطين، ليس بدراميته المتصاعدة من تحرير الأرض إلى تحرير الإنسان فقط، ولكن أيضا برؤيته لمستقبل الأمة وتفسيره لماضيها القريب والبعيد.

ولا يوجد كاتب سوري لم يربط خسارتنا لفلسطين بخسارتنا للأندلس. ولدى السوريين إحساس وولع خاص بكل ما هو أندلسي لسبب بسيط، أنها كانت جنة بني أمية بعد سقوط دمشق بأيدي العباسيين. وكان هذا أول صدع في العقل العربي، بعد اندلاع حروب الخوارج. وأرى أن الأندلس كانت إيديولوجيا عن الحياة، مقابل إيديولوجيا العباسيين التي تابعت الفتوحات والتوسع. وشتان ما بين بناء الجيش للغزو وبناء الحصون للدفاع -- وهي سياسة الأندلسيين التي اهتمت بالتجديد، ودعمته بتعميق حساسيتين. الأولى الطرب - ما هو سماعي. والثانية المطبخ - ما هو تغذوي. كان الأندلسون في عالم والعباسيون في عالم آخر. فقد تبنوا سياسة الانفتاح على الشعوب، واستبدلوا مبدأ التعريب الأموي بمبدأ الأسلمة العباسي. ولم يعالج أحد هذه القضية مثل رائد القصة السورية عبد السلام العجيلي. وبالأخص في واحد من أهم كتبه وهو "قناديل إشبيلية". وقد أثنى عليه شيخ النقاد العرب في حينه مارون عبود (الملقب بأبي محمد). وللعجيلي فضل في تعميق الدرب السوري ناحية فلسطين. وربما احتلور محامي الفلسطينيين في السردية السورية. ويكفي أن تقرأ له "السيف والتابوت" و"سبعون دقيقة حكايات"، ثم "ساعة الملازم". وكلها أعمال زرعت بذرة المقالة القصصية. وغالبا ما تبدأ بيا سادة يا كرام على طريقة الروايات والسير الشعبية.

وأحيانا يتخللها أبيات من الشعر أو وقفات للشرح والتفسير. ويمكنني القول إن العجيلي بحث عن أسلوب فني جديد ليتكلم عن قضية تحرك الرأي العام العربي.

وفي الهزيع الأخير من حياته عاد للموضوع الفلسطيني، وصدرت له في لندن مذكرات من جزئين بعنوان "ذكريات أيام السياسة".

وتبعها كتابه "جيش الإنقاذ"، وهو قصص ويوميات. ولا بد من التذكير أن العجيلي شارك فعليا بحروب النكبة، ودفع لقاذ ذلك ثمنا غاليا، وهو الاستقالة من البرلمان السوري الذي كان واحدا من أعضائه عن مدينة الرقة. ولكن العجيلي مجرد رقم في قائمة طويلة. فتاريخ السرد في سوريا يمكن اختصاره ببندين هما. حروب الاستقلال، التي سبقت النكبة بعشرين عاما أو أقل. وحروب لها علاقة بفلسطين أو الفلسطينيين. ولا يسعنا أن لا نرى أن تورط السوريين بلبنان كانت وراءه المخيمات. وأنتج ذلك كومة من الأعمال الهامة، منها أعمال خيري الذهبي (فقد كان أسيرا في إسرائيل خلال حرب تشرين). وكتب عن ذلك كتابه السردي والفضائحي "من دمشق إلى حيفا.. 300 يوم في إسرائيل". ومنها أعمال رائد القصة السورية الحديثة ياسين رفاعية (أذكر له روايته القصيرة "الممر" ثم "امرأة غامضة".

وبعدها "سوريو جسر الكولا" وغير ذلك). ولكن اقترن اسمه بمعركة السوريين مع الحداثة وسقط سهوا من قائمة الفلسطينيات. وينسحب هذا الكلام على وليد إخلاصي (مؤلف قصص "زمن الهجرات القصيرة" التي نشرتها له منظمة التحرير الفلسطينية). وأقول نفس الكلام عن حيدر حيدر (لكن ليس في "وليمة لأعشاب البحر"، كما ورد على لسان حمزة عليوي، وإنما في "حقل أرجوان" وقبلها "التموجات". وتدور أحداث العملين في عينا بوس المحتلة التابعة لنابلس، وتتابع نشوء وصعود حركة المقاومة والكفاح المسلح). ويصعب نسيان رائد الرواية السورية أديب النحوي لأنه خصص كل أعماله لفلسطين، وكتب عنها "سلام على الغائبين"، و"آخر من شبه لهم" و"تاج اللؤلؤ". والنوفيلا "عرس فلسطيني" وكانت حسب علمي أول نص أدبي رسمي يصدر باللغة المحكية. ولكن غطى عليه عمله الحكومي (في وزارة العدل لعدة دورات امتدت زهاء عشرين عاما). وكان يمثل الناصريين وليس البعثيين. وانتهت مهمته بعد ضبط منشورات لحزبه في سيارته الحكومية. ثم تفرغ للأدب وأضاف مجموعة من أجمل كتاباته، وهي "مقصد العاصي" ثم "سلاح الأعزل". ولا يختلف في كتاباته الأخيرة عن الشرائع التي سنها في بداياته، وهي التأكيد على العمل الشعبي لنصرة فلسطين. وما تبقى من المشروع السوري خصص كل وقته للجولان. خسارته وتحريره (المنقوص طبعا - وهذا الكلام مختلف عليه ولا يزال يدور حوله السجال الذي تتقاسظه إملاءات الإعلام الرسمي والدعوة للنقد الذاتي وإعادة التقييم). وبكل تأكيد لا يخلو بلد عربي من هذا الهم، ابتداء من الجزائر والمغرب وحتى السودان والصومال. ولا أحد يجهل مشروع الأعرج واسيني - الجزائري أو ربيع مبارك المغربي وهكذا. ولكن رغم هذا الانشغال لم يصل الصوت العربي للساحة الدولية. ويبدو لي أن السرد الإسرائيلي سبقنا في تسويق رسالته وتغليفها بلغة يفهمها الغرب بشكل جيد. ويقف وراء ذلك عدة أسباب. الأول هو تناحر الدول العربية لدرجة الاقتتال فيما بينها، وما ننعم به من جرح حضاري. وهذه النعمة التي نتباهى بها ونعطيها عدة أسماء - منها التنمية والتحديث - تكشف بالتدريج عن تعايش مع الفساد والدكتاتورية، إن لم نقل حكم العسكر.

وما يؤلمني بهذا الخصوص أن إسرائيل هي التي بدأت بعسكرة الدولة، وجاءت الجيوش العربية لترد عليها ردا باهتا ومضطربا.

غير أن إسرائيل عرفت كيف تسوق صورتها بشعارات ديمقراطية، وكيف تتستر على مرض الانتقائية أو الانحياز المتعمد - والتعبير الأخير للدكتور حاتم كناعنة. وفي كتاب مايا ويند عن العنصرية في جامعات إسرائيل** عدة أدلة على زيف هذه الديمقراطية. فالجامعات تبدو أشبه بمخفر أو ثكنة. وهي تحت حكم الميليشيات اليهودية أو حركة الشباب اليهودي. والكلام لويند نفسها. حتى أن الطلاب اليهود مسلحون، ولديهم واجبات لحراسة المداخل، وتفتيش الطالب العربي أو اعتقاله لمجرد الاشتباه. هذا إذا فتحت الجامعة أبوابها للعرب أصلا. وتضيف ويند أن فرص العربي قليلة، وتحاصره سياسة تجويع وتجهيل، وغالبا ما يجد نفسه على مقاعد معاهد محرومة من التمويل والتجهيزات.

ويضاف لذلك الكيل بمكيالين. فانتقاد هذه السياسة ممنوع. ويصنفه الغرب تحت تهمة جنائية وهي الترويج للإرهاب ومعاداة السامية كما لو أن دولة إسرائيل حصن سامي بوجه محيط من الإرهابيين. السبب الثاني أن الثقافة الإسرائيلية هي نتاج عدة ثقافات. بمعنى أن لها عدة جذور. والتنوع له فائدة أكبر من الكم.

وحتى لو كتب الإسرائيلي بلغة نصف ميتة وهي العبرية، فهو يخاطب عدة عقول وعدة عواطف. ولنأخذ عاموس عوز وأهارون أبلفيلد على سبيل المثال. الأول يناقش بناء المجتمع الإسرائيلي من داخله. ويتوقف طويلا عند طبيعة المستوطنات وأساليب الإنتاج وما يترتب عليها من وعي معرفي بالهوية الإسرائيلية. ولا يفوته المقارنة بين عاطفة المواطنة - يخص بها اليهود، وغريزة البقاء - ويخص بها العربي. ويصوره دائما بشكل بدوي ينتمي لنفسه وليس لدائرته الإنتاجية. ولذلك أرى أنه كاتب قومي. لكن يتبع الثاني، أبلفيلد، خط الميتا خطاب. ولا أقصد الميتارواية. وكل أعماله مكتوبة بولع خاص بالشخصية النمطية. غير أنه يحقنها بلغة تؤثر بوجدان ابن الغرب. فأبطال رواياته أطفال صغار - أذكر هنا روايته "ورود الظلام"، وقد صدرت بترجمة إنكليزية عام 2010. و"كل من أحببتهم"، وصدرت ترجمتها عام 2007. أما الحبكة فهي غالبا عن صعود النازية وتطهير أوروبا من اليهود. ولذلك تبدو رسالته وكأنها دفاع عن الطهارة والبقاء، أو أنها مجرد بحث عن ملجأ في أي جحيم.

وشاء القدر أن يحملهم حظهم إلى بلد عربي. والحقيقة أن السرد الإسرائيلي يخلو من العنتريات العربية، بل على العكس تجد في أعمال كاتب معاصر، وهو إتغار كيريت، حنانا عجيبا حيال شريحة من الفلسطينيين، مع روح ساخرة تتهكم من تجاوزات اليهود ورعونتهم، وكل أعمال كيريت تخلو من الشخصيات العدوانية والمتوترة. ويغلب عليها روح النكتة السوداء. وإذا كان اليهودي يسخر من نفسه، فالفلسطيني في أعماله يضحك على ظروف حياته. وهكذا أنت تتابع نمطين ساخطين، كل منهما يعرب عن ندمه على خطأ ما، وهو غير مسؤول عنه، ولكن يحمل تبعاته (انظر روايته القصيرة "المخيمون السعداء في نيلر"). بتعبير أوضح نحن نحتاج لضبط رسالتنا قليلا. فالمجتمع الدولي سئم من موجات الهجرة التي ترتبط بالحروب الدموية.

وهو بحاجة لغسيل دماغ بعد التنويم المغناطيسي الذي كان نتيجة لمعسكرات النازيين وحروبهم. *نشرت الشرق الأوسط مقالة حمزة عليوي بعنوان "نهاية دولة فلسطين الشعرية" يوم 3 آذار 2024. وهي رد على مقالة أحمد الزبيدي المنشورة يوم 25 شباط 2024، بعنوان "ماذا بقي من دولة فلسطين الشعرية".

** صدر كتاب مايا ويند عن دار فيرسو الأمريكية بعنوان "أبراج من العاج والفولاذ: كيف تحرم الجامعات الإسرائيلية الفلسطيني من حرياته".

وهي كاتبة إسرائيلية تقيم في كندا. تعرضت للاعتقال بسبب رفض تأدية الخدمة العسكرية الإلزامية.

2024-03-07