الإثنين 20/10/1445 هـ الموافق 29/04/2024 م الساعه (القدس) (غرينتش)
الوجه الآخر الذي عرفته وداعاً للنجمة ناديا لطفي....شوقية عروق منصور

امرأة شقراء ، طويلة القامة ، الضحكة لا تفارق شفتيها ، المميز بها البحة التي تعايش حنجرتها، بحة فيها الدفء بقدر ما فيها  أيضاً  الثقة ، تستقبلك وهي ترتدي ثياب البيت، دون أقنعة ، ودون أضواء واكسسوارات ، ترحب بعبارات تشعل خجلك من كثرة ابجديات المحبة ، الى لغة السياسة .. عندما احتضتني وقالت : اشم بك رائحة فلسطين .

ذات ليلة التقيت بها في بيتها في مدينة  القاهرة  وكان ذلك عام 1983 ، أو بالأحرى  في شقتها المتواضعة جداً ، وكانت هي الفنانة نادية لطفي التي لعبت بالأضواء وأحاطت صورتها بظلال من الجوائز والأفلام وحفلات التكريم، لكنها الآن في تلك الليلة ، لمحت في عينيها صورة  المرأة العنيدة التي تحدت الخطر ودخلت بيروت أثناء الحصار وعاشت مع العائلات المحاصرة ومع رجال المقاومة و الفدائيين .

لا مفر من سطوة الاعجاب أمامها وهي التي قامت بتمثيل فلم " الخطايا " مع عبد الحليم ، وأنا التي اعتبر المطرب عبد الحليم حافظ مطربي المفضل- وما زلت - ، و طوال عمري أعتبر اغانيه خارطة للعواطف الشبابية ، وصوته ذاكرة تحمل المشاعر والاحاسيس الإنسانية والوطنية ، لا بد أن يكون النقاش حول الفلم الذي اخرجه آنذاك " حسن الأمام " وكانت البطولة موزعة بين عدة فنانين اشهرهم عماد حمدي ومديحة يسري ، لأن هذا الفلم يعتبر علامة فارقة في السينما المصرية .

وأثناء رشفنا فنجان الشاي وقطعة الكعك التي أصرت أن اذوقها وهي من صنع يديها ، فتحت الباب الآخر بعيداً عن الفن ، قريباً من قضية تناضل من أجلها  وهي " القضية الفلسطينية " .

عندها تحولت الى امرأة  أخرى ، امرأة تتحدث عن نكبة 1948 ، عن قرار التقسيم ، عن وعد بلفور ، عن نكسة 67 ،  عن حرب 73 ، عن المظاهرات التي شاركت بها ، عن الندوات التي حضرتها في دول العربية وفي أوروبا حول القضية الفلسطينية .. امرأة على أهبة الاستعداد للكلام ، لا تمشي على رصيف العبارات المنتقاة ، بل تركض في سباق مع خلايا الذاكرة التي تضخ لها الأماكن والوجوه .

ضحكت بأعلى صوتها وهي تقول : الم تسمعي الاشاعات التي قيلت عني .. أنني عشيقة أبو عمار .. ياسر عرفات .. ؟؟!!  ثم تسللت بخفة إلى إحدى الغرف وأتت بكيس ضخم ، وقالت لي تعالي نجلس على الأرض ، وفعلاً نهضت عن الكنبة  وجلست إلى جانبها ، الصقت ظهرها بالحائط ، وقالت لي بصوتها العذب : الليلة للصبح .. وبعد أن كنت منحنية الظهر الصقت ظهري أيضاً  إلى الحائط .

وفتحت الكيس وإذ بمئات من الصور تتساقط على السجادة ، الصور  تخرج من  قلب الحصار، حصار بيروت عام 1982  لقد قامت بتصوير عشرة  الاف صورة  .. وجوهاً  عسكرية و قذائف ار بي جي محمولة على الاكتاف، نساء يطبخن على الحطب، و الرجال يتجولون بين البيوت المهدومة  تجمعات لأطفال يرفعون أصابعهم البريئة إشارة النصر، بيوتاً مهدومة آيلة للسقوط ، وبيوتاً تحدق في الطائرات وتتحدى قذائفها ، ما زالت شامخة رغم شدة القصف ، ورجال يركضون بين الدمار  ،الساحات،  الملاعب ، الشوارع ، المدارس ، ومضات من الصور تحمل الحزن على الخراب وأسلحة تغرس قاماتها في لهيب الانتظار لأي طائرة تحاول الطيران فوق بيروت الغربية ، وفرق فنية تعزف وتصفق كأنها تقول : سنبقى دروع الانتصار .

كانت نادية لطفي في بيروت ، الشق الغربي ، أو كما أطلق عليه بيروت الغربية التي حوصرت ثلاثة أشهر ، تنقلت خلال الحصار في كل مكان قدمت الطعام للمقاتلين ، وضمدت جروح الكبار والصغار ، ودفنت الكثير من الجثث التي كانت ملقاة في الطرقات ، كانت تعرف الوجه وتصيح هذا فلان ، وهذا علان ، تعرف الأسماء وتعرف كيف قتل بعضهم .

في الساعة الرابعة صباحاً  تكوم التاريخ والكلام والوجوه جلست  أمامنا تنتظر رحيلها  ،  وأدرك شهرزاد الوجع البيروتي، أدرك  نادية لطفي التعب من شهقات الألم والحزن حين كانت تتأمل  صور الذين استشهدوا وغابوا ، حيث قامت بتصويرهم وهم يضجون بالحياة، يتسلقون سلالم التحدي .. وابتسمت عندما رفعت صورة الشاب الذي كان يردد ( جاييلك يا شارون .. )  لكن قتل بقذيفة مع رفاقه .

سألتها من سيتكفل بنشر هذه الصور ، من سيقوم بتبني أشرطة الفيديو التي قمت بتصويرها .. !!  قالت : أتمنى أن اقدمهم لجهة فلسطينية  تحتفظ بهم للأجيال القادمة .

شعرت أن الغرفة التي نجلس على بلاطها  مسكونة بأصوات وحشرجات وتنهدات وهمسات هؤلاء الذين عاشوا الحصار التاريخي ، و كانت معهم " نادية لطفي " ليست فنانة بقدر ماهي انسانة أحبت القضية الفلسطينية وأخلصت لها ، حتى أنها تركت الأضواء وصممت على الدخول إلى قلب الحصار .

الغرفة  مسكونة بمرحلة يغلق عليها التاريخ أبوابه ، ويحاول إطفاء الأنوار وتركها في ظلام الخيبات.

مع ملامح الفجر،  وعند الباب وأنا أهم الخروج قبلتني امرأة خارجة من هذيان الفن إلى  الواقع العربي الصعب ، امرأة دون أضواء ، لكن في أعماقها تقرع طبول  الرفض معجوناً بالعناد ، حيث تترافع عن قضية آمنت بها  .

وداعاً يا أجمل النساء ..  وداعاً "  نادية لطفي " ليس لأنك نجمة سينمائية فقط ، بل لأنك امرأة  حلمت بالنصر القومي والفلسطيني ، وبحثت عنه ولم تعش فقط في مدارات الأضواء العابرة .

 

2020-02-04