الجمعة 9/11/1445 هـ الموافق 17/05/2024 م الساعه (القدس) (غرينتش)
قصة--"في الزحام" .... عبد الهادي شلا

 بدون مقدما ت وقع تحت سطوة شعور جارف لم يقوى على مقاومته فاعترض طريقها وسط الجموع التي ملأت المجمع التجاري حركة وطلب منها بأدب جم أن تشاركه الجلوس على الطاولة القريبة التي أشار نحوها وسط دهشتها وظنها أنه يتحدث مع أحد يقف بقربها وأخذت تتلفت عن يمين وعن شمال وخلفها محدقة في عينيه الجريئتين بل الوقحتين كما ظنت مما الجم لسانها فعجزت عن الرد لولا أنه أردف بأدب شديد و توسل بنرة ضعف..لو سمحتي ؟!

 

-أتقصدني أنا !!؟

نعم ..انت.

 

لكنك لا تعرفني،وما سبق أن التقينا ؟!

 

أعلم هذا،ولكني أطلب منك دقائق قليلة تشاركيني شرب فنجان قهوة على تلك الطاولة .

 

عجيب أمرك سيدي..ألا تدرك أنك تتخطى حدودك و لربما أصرخ وسط هذا المجمع التجاري طلبا للنجدة وأدعي بأنك تتحرش بي علنا دون خجل رغم ما يبدو عليك من وقار؟!

 

افعلي كل ما يخطر لك،لكنني مازلت أطلب ..بل أرجو أن تتقبلي دعوتي بنية خالصة فأنا بحاجة إلى أن أتحدث معك قبل أن يمزقني هذا الإلحاح و أنفجر فأنت الوحيدة التي يمنكها أن تمنع هذا من دونا عن كل هؤلاء النساء اللاتي يكتظ بهن المجمع التجاري،ولا أظنك سترفضين لو كان عندك فضول بمعرفة ما وراء طلبي..!!

 

أرجوكي سيدتي امنحيني فرصةصغيرة .. بعض دقائق قد لا تكون ثمينة عندك ولكنها أكبر قيمة عندي ولا يعادلها شيء مهما استرسلتُ لك في الحديث،فالوقت يداهمنا،وأنتِ على ما يبدو أنك على عجل فلو شاركتني شرب فنجان قهوة ولبيتي دعوتي لكان الوقت أكثر قيمة واختصرناه!!

 

مازالت على دهشتها التي وصلت حد الصدمة تصلها كلماته المتلاحقة دون أن تتمكن من مقاطعته وتأخذ فرصتها في الرد الكافي وشـَرْحُ ما يمنعها من مشاركته أو دعوته التي لا تثق في براءتها وتشك في صفاء نيته وغرضه من هذه الدعوة الغريبة!!.

 

رضخت لإلحاحه وإصراره..

 

بخطوات بطيئة اقتربت من الطاولة التي أشار إليها..

 

سبقها بأن سحب الكرسي بطريقة "الجنتلمان" توحي بخبرة في التعامل مع النساء ليكون الكرسي في وضع يناسب جلوسها ببطء وبشكل مريح.

 

كيف تشربين قهوتك سيدتي؟

 

-قليل من السكر .

 

كوبين من القهوة بقليل من السكر لو سمحت وجه كلامه إلى النادل الذي جاء ليلبي طلباتهما.

 

-مازلتُ في حيرة من دعوتي هذه..هل تفضلتَ بشرح وتفسير طلبك قبل أن يداهمنا الوقت وتحضر القهوة؟ ثم أنك لم تقدم لي نفسك..من أنت بكل ما يحمل السؤال من تفاصيل..هل فهمتني؟ قالتها بصعبية واضحة على قسمات وجهها و فضول تمكن منها.

 

نعم..فهمت سؤالك، وسأجيبك على كل ما خطر ببالك منذ اللحظة التي أوقفتك فيها وطلبت منك مشاركتي فنجان قهوة على هذه الطاولة بالذات !!

 

إسمي"سامي" حضرت إلى المدينة منذ سنوات للدراسة بالجامعة اكتسبت الكثير من الخبرات الحياتية بسبب معاناة طويلة لازمتني سنوات غير قليلة قبل أن أكون من أكون اليوم..

 

لو كان لك اهتمامات أدبية لعرفتي أنني أديب ..شاعر، ولا أدعي أنني مشهور أو لي مريدين رغم كثرتهم ولو كان لقاؤنا هذا في مكان غير هذا لما تمكنتُ من الجلوس معك بهذا الهدوء لأن الكثيرين سوف يقاطعوننا ليتحدثوا معي أو يقدموا التحيات ، أو ربما لم أكن قد التقيتك ووقعت عليكي عيني..!!

 

هذا ليس تفاخر ولا مديح فهاتان صفتان أمقتهما حين يبالغ البعض في استخدامهما،ولكن أسبابهما موجودة عند الكثيرين لما يقرأونه من أشعار أو قصص أنشرها في المجلات والصحف.

 

هذا بعض عني ،ولكنه ليس كل شيء مما تريدين معرفته وهو الغرض من دعوتك ..؟!

لمحتك وسط الجموع التي يزدحم بها المجمع وكأن سهما مرق مخترقا كل الوجوه ليثير مشاعري وينبهها إلى ان هذا الوجه هو مفتاح القصيدة..أو بداية قصة تزاحمت صورها في مخيلتي وأرهقتني دون أن أتمكن من اقتناصها أو التأكد من ملامحها ،وهذا شعور اعتدت عليه كلما كنت على وشك انتظار ميلاد عمل جديد.

 

مازالت السيدة تُسندُ رأسها بكفها تنصت بشغف أكثر ورغبة في المزيد من الحديث الذي بدأ يتسلل إلى عقلها وقلبها و يثير فضولها .

 

بإحساس الشاعر أدرك الحالة التي صارت عليها فاسترسل في رسم ملامح قصيدة قد تكون هذه الطاولة في هذا الوقت وسط كل هذا الضجيج هي مكان ولادتها .

 

باغتها بالسؤال: هل تحبين أن تسمعي بعضا مما اعتمل في صدري وأشعر به يخترق شرنقته بهدوء؟

 

-اعتدلت وابتسامة خفيفة ارتسمت على شفتيها وهي تعبث بخصلات من شعرها انبسطت على كتفها الأيسر القريب منه،وأومأت برأسها بالموافقة.

 

اسمعي إذا:

لا تـُرســلي زهــُوراً..

لا تــُرســلي وروداً..

فـَمــا عــَاد عــِطرهــا يــَروي .. شـــَراييني

ولا تكــتـُبي على بطــَاقةٍ بيضــَاءَ شـــِعـرا..

فــَما عــَادَ الحـَرفُ مِنـك كالأمــسِ .. يـُشــجـِيني

يَكـفيني مـِنكِ أن أرى في الحــُلمِ وَجهــَكِ ..

ابتســامتـُك أو تـَصــُبي رَحيــقـاً مـن شــَفتـَيكِ يـَســقيني

يكـفيني مـِنكِ أن أضــُمَ إلــَى قــَلبــُكِ قــَلــبي .. وأيــَامـِي وســِنيني

عـَلـَّـني فــِي الحــِلم أعــِيدَ ربيــعَ العــُـمر بعــد أن كــَادَ .. يـَطــوينــي

قــَد جـَـفَّ نـَبـعُ القــَلب ومــَا عـــَادَ يـَرويكي ، و يــَروينـِي

فــَأرســلي ..

زهـــوراً ..

وُروداً رُبــَما أريجـــُـها من بعــد جـَفــَافِ القــَلب يـُحييكــِي ، و يـُحيـِيني.

 

دون إرادة منها صفقت بصوت كحفيف أوراق شجر داعبته نسمة في ليلة صيفية وأرسلت من عينيها شعاع تجمعت حوله كل فراشات قلبه..فصارت لحنا عذبا انشرحت منه أسريره .

 

رغم تزاحم الأصوات والحركة في المجمع التجاري إلا أن إشارات جميلة تبادلتها عيونهما وابتسامات خجولة ونظرات اختصرت كل الأجوبة.

 

- أعتذر عن شكوكي و توجسي حين دعوتني إلى فنجان قهوة على هذه الطاولة بالذات ، هل كنت على موعد مع ميلاد قصيدتك هنا ؟!!

 

امتدت يده إلى فنجان قهوته ..

 

كان في صمته أخر كلمة في القصيدة !!.

2022-02-21