الجمعة 17/10/1445 هـ الموافق 26/04/2024 م الساعه (القدس) (غرينتش)
بورتريه / الصغير أولاد أحمد أونيتشه على باب المعرّي .... فوزي الديماسي
بورتريه / الصغير أولاد أحمد أونيتشه على باب المعرّي .... فوزي الديماسي

 ” إلهي... أعني عليهم لقد عقروا ناقتي وأباحوا دمي في بيوت... أذنت بأن لايراق دم فوق سجادها إلهي... أعوذ بك الآن من شر أهلي يبيعون خمرا رديئا ويؤذون ليل السكارى البرئ إلهي... لقد تم بيع التذاكر للآخرة ولم أجد المال والوقت والعذر كي أقتني تذكرة فمزق تذاكرهم يا الهي ليسعد قلبي ألم تعد الناس بالمغفرة ؟؟ ” الصغير أولاد أحمد
*****
.... هكذا تلعب السخرية دورا رئيسا في كتابات الصغير. هكذا ترسم روح " رسالة الغفران " ملامح الصورة الشعرية في كتاباته ، فهذا الذي طرده قبرهم ، واحتملته الورقة ركب ظهر المداد ليرحل في دروب الحرف بحثا عن أمّة تعيش يومها في طين الأرض ومن خلاله ، لا من سراب السماء تكرع الوهم ، وتبشّر المشرّدين بقصور هناك بعيدا في الخيال .
كأنّني به ”نيتشه الكلمات ” يعيش حيرة المعري في ”لاذقية التداخل“ ، بأسلوب تغلب عليه الجمل الخبريّة الناقلة بأمانة لوضع الأمّة المتأرجحة بين التقيّة والفسق . وتكشف بكلمات بسيطات فقدان الناس لبوصلتهم الحضارية .
لم يعلن موت الإله مطلقا كصاحبه نيتشه ، بل بالحرف كان يحارب صورة ” الله ” التي جاءت في قول الشاعر عبد العزيز المقالح وعلى لسانه : ” فأصبح الله رعبا في كفّ الجلادين “ ، كما صارع بقوله بائعي التذاكر للآخرة ، وبائعي الخمور الفاسدة من بني جلدته للسكارى الطيبين ، وبين الوهم والخمر الفاسد وشائج قربى وصلة رحم في تدمير سكينة الحياة ، والتي كشفتها قصيدته في بأسلوب ساخر ، متهكّم ، مدجّج بسؤال خفيّ يمخرعباب ضبابية المشهد الحضاري لدى العامة المحتلين لمنزلتين متناقضتين مختلفتين متضاربيتن ' المقدّس / المدنّس' .
هؤلاء أنفسهم هم من عقروا ناقته ، وهو ”نبيّ ” الحياة / الإنسان / الجمال ...
عقروا مطيّته ليكفّ عن الترحال في أرض السؤال ، والدهشة ، والحيرة ...
عقروا ”صحفه ” و“نبوّته ”وصوته في فسيح الأرض / الجسد لكي لا يحرجهم ، ولا يكشف عوراتهم . إنّهم أرادوه كما السواد الأعظم يأكل الطعام ، ويقبّل يمين الغياب ، ويقتل فيه صهيل الجسد/ الحياة أسوة بقول فلاسفة اليونان ” الجسد قبر للروح ” ، لكنّه لبس جبّة الصعاليك والتمرّد ، وثار على ” نواميس الأضداد ” في بنية عقل أمّته تلك التي تبيع الخمر المغشوش وتسبّح بحمد ربّها ليلا نهارا طمعا في الجنّة في الآن نفسه .
وتداخلت الأصوات والمرجعيات في بناء قصيدته ومناخاتها ، ولعبت ذاكرته القرائيّة دورا رئيسا في دعوة نصوص تراثية عربية وكونية لأرض الورقة ليرسم بذلك صورة شعرية خاصة به . فهذا صوت نيتشه يعانق شكّ المعرّي في ساحات أبي نواس ، وينهل في كثير من منعطفاته من النصّ القرآني وقصصه 'قصّة صالح وثمود ' و 'قصّة موسى يوم الزينة '، و' سورة الفيل ' ، وهذا ماركس يلوّح بفكرته ” الدين أفيون الشعوب ” بين سطور القصيدة . هكذا عملت أصوات مختلفة على رسم صورة إله الشاعر وخبايا نفسه المبعثرة على أرض البنية الفكرية لأهله ، شعب مضظرب الرؤى والقناعات ، وإلهه سجين في محبس قراءات القرّاء والسياسيين والعمائم التائهة ، هو الذي تقلّبه أصابع الملوك ، والأهواء ، والمصالح العاجلة ، لتقيم به ، ومن خلاله في العالم إقامة مقدّسة لا تطالها ألسن الغاضبين والفقراء والمعذّبين في الأرض . فتسرق باسمه ، وتسفك الدماء باسمه ، وتأكل الأرزاق ، والعرق بلا رقيب ، وتجلس في ساحات السكينة تحت ظلّه المقدّس المديد . كما كانت بعض جمله الخبرية المفيدة للدعاء نافذة على مشاعره المزدحمة ، ولوعته في قوم احترفوا " اللون الرمادي " في تصريف حياتهم ، فطلب لهم الشاعر” الطير الأبابيل ” جند احتياط ، والجراد ، والوباء لأنّهم اعتنقو الغشّ والمراوغة ، وصنعوا من " الله " بطين دهائهم شمّاعة لسلوكهم . لقد تمنى كجدّه أبي القاسم الشابي 'وما أشبه اليوم بالبارحة ' أن يكون صيحة تجرف طقوس الضعف ، والخيانة ، والسقوط ، والذئبوية ، والإرتكاس ، وكأنّ صوته امتداد لصوت الشابي :
أَيُّها الشَّعْبُ ليتني كنتُ حطَّاباً فأهوي على الجذوعِ بفأسي ليتني كنتُ كالسُّيولِ إِذا سالتْ تَهُدُّ القبورَ رمساً برمسِ ليتني كنتُ كالرِّياحِ فأطوي كلَّ مَا يخنقُ الزُّهُورَ بنحسي ليتني كنتُ كالشِّتاءِ أُغَشِّي كلّ مَا أَذْبَلَ الخريفُ بقرسي ليتَ لي قوَّةَ العواصفِ يا شعبي فأَلقي إليكَ ثَوْرَةَ نفسي ليتَ لي قوَّةَ الأَعاصيرِ إنْ ضجَّتْ فأدعوكَ للحياةِ بنبسي ليتَ لي قوَّةَ الأَعاصير لكن أَنْتَ حيٌّ يقضي الحَيَاة برمسِ
عمله رجع صدى لقلق سرمديّ كونيّ ممتدّ ، وقوله ينحت من حيث يشعر أو لا يشعر من هموم الأوّلين وقليل من الآخرين . بناء مفتوح على نصوص قديمة وأخرى حديثة يداعبها في لحظة ألم وظيفيّ كما يداعب الخزّاف طينه ، هذا بعض من الصغير أولاد أحمد ...