الجمعة 17/10/1445 هـ الموافق 26/04/2024 م الساعه (القدس) (غرينتش)
' الحركة والسكون في اللوحة '...عبد الهادي شلا
' الحركة والسكون في اللوحة '...عبد الهادي شلا

 

يقول الناقد الفرنسي " كلود روشان" : "إذا أردنا أن نلخص أهم الميزات التي تجعلنا نميل إلى رسم بعينه عن الآخر لن نقول اللون ولا الشكل ولا المقياس وحده بل لعلنا نؤكد أن أهم وشائج الفكرة التشكيلية هي " الحركة " لأن الحركة بكل بساطة هي علة التكوين والتصوير ومن ثم نواة الفن التشكيلي من هنا تصبح المزية المتفردة لكل فنان هي إعتماده لفكرة الحركة في مشروعه التشكيلي فهي أحياناً أي الحركة تتفوق على كل مقومات الفنان بل وتصبح هي القيمة الكبيرة في عمله الابداعي"(1)

 

يظن المتلقي من العامة أن " اللوحة الفنية الكاملة " هي تلك التي ينجذب إليها و تغريه بتفحصها بسبب لون يحبه أو حركة جميلة لجسد أو نظرة حزن في عيون طفل  فيبدي سرورة وإعجابه بها.

لكن المتخصصون من النقاد والمبدعين يطلبون شيئا آخر في "اللوحة الكاملة" كي تكتسب صفتها ومكانتها الرفيعة.

فما هي هذه الأشياء التي يطالبون بها؟

اللوحة الفنية كي تستقيم وتأخذ صفتها الرفيعة في عالم الفن يجب أن يتوفر لها عناصر هي من أساسياتها ولا يمكن أن تستقيم اللوحة دونها كاملة أو دون واحدة بدلا عن الأخرى وهي تتمثل في : فكرة اللوحة "أو المشروع الذي يعمل عليه الفنان" - التكوين - الخط - اللون و أسلوب الفنان أي - شخصيته الفنية - هذه أساسيات لو غاب أحداها فإنهم يطالبون الفنان بتبرير يجدونه في لمسة حادة أو ملمس أو تحريف لشكل عن طبيعته يكون عوضا عن العنصر المُغيب قصدا من الفنان.

ما يسبق عملية الخلق عند الفنان جزء هام من اللوحة ذلك أن توالد الفكرة ونضوجها يستنفر كل خبراته ويضعها في صياغة جديدة حين يصهرها في بوتقة تلتقي فيها كل عناصر اللوحة حتى تنضج ليستخلص شكل الفكرة الجديد نقية كما لوكان يُخلص الشوائب من المعدن الثمين.

والقناعة بصورة الفكرة في مراحلها الأخيرة تأخذ نصيبها من الوقت يطول أو يقصر لكن الفنان لا يصل إلى قناعته حتى يضع اللمسة الأولى على اللوحة ويبدأ مشواره فيها صعودا وهبوطا ،قناعة وعدم رضى ومتناقضات كثيرة تتجاذبه وتحط به وهو غارق في إسقاطاته الهامة التي تحمل البذرة النقية لها وهذه تأخذ منه جهدا ذهنيا وعاطفيا.

وماذا بعد؟

يبدأ العقل عمله في حسابات أخرى ضمن الأساسيات الثابتة لمقومات اللوحة ولعلنا نؤكد هنا على أنها متفاوتة بين الفنانين وقد تأخذ أشكالا متعددة وَحــدَهُ كل فنان القادرعلى ضبط إيقاعها من منظوره ورؤيته وخبرته.

*أسلوب الفنان ،هو المساحة المسموح فيها للفكرة أن تتطور وتتمدد وتتشكل وخاصة في مراحلها الأولى حيث يمكن لها أن تنفلت قليلا وتتوزع في أجزاء اللوحة كذبذبات تحتاجها بينما الفنان وضمن أسلوبه الفني يوازن بينها ويتربها كل في مكانه.

هذه الذبذبات دائمة ..( الحركة ) وهي متواجدة في كل لمسة في اللوحة وكما أسلفنا أيضا فإن.. ( الخط ) الذي يرسمه الفنان في.. ( التكوين ) الذي نتج عن الفكرة وتم توزيع ..(اللون ) فيه ،وهذا اللون هو الذي يحمل الذبذبات الصغيرة والكبيرة لصنع الإيقاع النهائي في اللوحة سموا وهبوطا و.. ( سكونا ).

إذاً هناك " حركة " ، وهناك " سكون " في اللوحة!

ويعتمد وجود هذين العنصرين بكميات متفاوتة في اللوحة على أسلوب الفنان أيضا، و لنا مثال في أعمال  الفنان " إدوارد ديجا " إذ يزاوج بين الحركة والضوء و بين الجمال والرشاقة ضمن مشروع "راقصات الباليه".

وفي مثال على أن الحركة هي أساس كل عمل فني فإن الدارس للوحة الفنان الأسباني ( يوجين ديلاكروا) "الحرّيـة تقــود الشعــب" والتي ربّما تكون أشهر أعماله وأكثرها أهميةً، وقد أصبحت رمزا للثورة والحرّية.

 وفيها يصوّر الفنان انتفاضة الشعب الفرنسي عام 1830 ضدّ حكم عائلة "دي بوربون" على أمل استعادة النظام الجمهوري الذي نشأ مباشرةً بعد اندلاع الثورة الفرنسية الأولى في العام 1789 م.

الشخصية المحورية في اللوحة هي رمز الحرّية نفسه. وقد صوره ديلاكروا بإمرأة فارعة الطول وحافية القدمين وقد إنحسر رداؤها عن صدرها في خضمّ المعركة النهائية التي ستقود إلى الحرّية والخلاص.                                                         
تبدو المرأة هنا وهي ترفع العلم بيد وتمسك باليد الأخرى بندقية وقد أشاحت بنظرها جهة اليمين تتخطى الجثث أمامها دون اكتراث بما يجري حولها من جموح وغضب. في هذه اللوحة تتجسد "الحركة" كفعل مثير تعتمد عليه اللوحة في طرح الفكرة التي أرادها الفنان هدفا ورمزا.

ولعل لوحة أخرى لهذا الفنان نجد فيها مثالا نتحدث فيه عن مرادف الحركة، وهو" السكون" الذي تجسد في لوحة "يتيمة

في المقابر" ، التي تصور فتاة وحيدة تجلس وسط القبور، وقد تحجرت الدموع في مآقيها، وارتسمت في عينيها نظرة مشحونة تحمل ما لا تستطيع الكلمات التعبير عنه من وحدة موحشة ويأس وضياع وتساؤل لتلك السماء التي تصوّب نحوها نظراتها الخرساء.‏

وقد قلنا في مقدمة بحث فني هو مشروع الحركة والجمال (Figure Skating ) أن :" الحركات الرائعة والمحكمة بتوازن محسوب مع النغم الموسيقي القادم من البعيد في توافق وإقتدار من الراقص أو الراقصة على السطح الجليدي و علاقتها بالجو العام المحيط وما ينتج عنه من "حركة" في المكان ..هذه النقاط الأساسية التي إعتمدتها أساسا لبحثي ، وبدراستي العميقة لحركات الأجساد مع تخيل شكل الحركة المحيطة المنبثقة عن الحركة الأساسية للجسم السابح في الفراغ المشبع بالموسيقى ، وهو ربط بين حركتين في مكانين مختلفين: واحدة في أعضاء الجسم المتحرك والأخرى منبثقة منها في الفراغ المحيط بالجسم المتحرك. (2)

 

وعن السكون في اللوحة أيضا فإننا لو يممنا نحو الأعمال الإسلامية التي تتميز بالتجريد التام والألوان الصريحة لوجدنا السكون سمتها، إلا إذا إعتبرنا انسياب الحروف وحركة النباتات  - كلها جماد لا روح فيها - رغم مظهرها الساكن في روحانيات مذهلة اعتبرناها همس في عالم السكون التي تميز بها الفن الإسلامي خاصة.

 

 تقول الناقدة ضحى عبد الرؤوف المل : ( نجد وفي أعمال الفنان "فاروق لمبز "الروحانية بين الحركة والسكون حيث تتشابك النظم اللونية مع الافكار الجدلية والزخرفية برمزية يستخدمها هذا الفنان لتوضيح العلاقة بين الحرف والفكر، وبين " الحركة والسكون"، وقوة الإرتباط بينها لينجذب البصر بسرعة الى النقطة الإيهامية المحيرة او الدائرة المبهمة بتداخلها الضوئي التي تلخص الرؤية الكونية للحركة العكسية، المرتبطة بحالة التوازن الحركي والسكوني المحسوس بصريا، والملموس ذهنيا بواسطة الحروف واشكالها المتلائمة مع المربع والدائرة، والشكل المخمس الجامع لزخرفيات تتمتع بحساسية وشفافية لها خصائص لا تقل عن الاشكال الهندسية، وعلاقتها برياضيات الحروف كونها حقيقة تصل معانيها للاخرين، وترتبط ارتباطا وثيقا بميكانيكية الحركة ودورانها الفيزيائي المتوازن مع الضوء ).(3)

 

وفي لوحات الفنانين المعاصرين تتكرر هذه الصورة بحركة اللون أو الخط أو اللمسات القوية في بعض أساليبهم

وهي حركة تلتقي مع السكون في صفاته إذ هي جمادات من مساحات لونية صامتة تجبر العين على استشعار "الحركة" ونقيضها " السكون"!.

 

 وفي لوحة للفنان البولندي " آجور مورسكي" تلتقي الحركة والسكون  معا في فكرة واحدة للوحة جمعت النقيضين حيث نرى كل شيء متحرك في وجه الفتاة التي تنتزع الريح وجهها قطعة .. قطعة وكأنه قناع تمزقه الريح العاصفة وكل ما حولها في حركة : الشجر وردائها الأحمر إلا عيناها فهما "ساكنتان " تتابعان شيئا ما بينما بدى على وجه الفتاة أنها مسلوبة الإرادة ومستسلمة للعاصفة التي تمثل "الحركة" في أوج عنفوانها!.

 

وكما قال الفنان حامد ندا: " كل عمل فني لا يخلو من شيء من السيريالية " فإننا ومن خلال ما تقدم فإننا نقول:" كل لوحة لا تخلو من حركة أو..سكون ، وبهما تكتمل مقوماتها !. 

---------------------

 (1) التشكيلي – إدجار ديجا - فنان الانطباعية والبعد الحركي- بقلم/ باسم توفيق

(2) مشروع الحركة والجمال - كاتب المقال.

(3) ضحى عبد الرؤوف المل – جريدة اللواء 7 تموز /يوليو 2013