الجمعة 17/10/1445 هـ الموافق 26/04/2024 م الساعه (القدس) (غرينتش)
باهتُ المَعالم...بقلم تفّاحة سابا
باهتُ المَعالم...بقلم تفّاحة سابا

ما عدتُ أذكرُ مَعالمَهُ، ربّما كان بقايا قصر مُتهدّم، في ركنٍ منه، ربّما كان هو الدّاخلُ أو الخارج، الغرفة أو السّاحة.

قابعةٌ أنا، منكمشةٌ في الطّرف المتأخّر لديوان، في ساعةٍ ما عدت أذكر إنْ كانت صباحًا أو مساء، وكلّ ما أذكرُهُ هي عيوني المُنصبة على الفرشة أمامي، وأنت تقفُ هناك وتدلّكُ أجسادَ النّسوة الواحدةَ تلو الأخرى، أنظرُكَ وتتجاهلُ وجودي، تدلّكُ وأتوجّع، تَصبُّ حرارتك في أجسادهنّ، وأنا أصبُّ حنقي عليهنّ.

قابعةٌ أنا في الزّاوية الّتي لا جدارَ يَحميها،أنظرُ وأنت تتجاهلُ وتستمرّ، أنظرُ بصمتٍ، وفي داخلي ضجيجٌ مُتنافرٌ من الأصوات يمحو الكلام من حولي، الواحدة تلو الأخرى يتبدّلن على الفرشة، وفي ذهني آلاف المشاهد والصّور أبنيها لأولئك النّسوة، وكلّما زادَ غليانُ غيرتي، غلت تلك المشاهد بنسوة يأتين بخطة مُسبقةٍ لسلْبِكَ منّي، لاقتصاصي من وجودك، للالتفاف عليك، يأتين ويُباشرن المهمّة.

لكلِّ واحدةٍ بنيت سيناريو، أنظر ولا أرى سواها، سيناريوهات تلغي كلّ معالم المكان حولي، كرهتهنُّ وغضبت، وحزنت والحزن حوّلني إلى مازوخيّة مشلولة، ترى وتتوجّع، وترى لتتوجّع، وكلّما رأت وتوجّعت، تغوص بعمقٍ أكبرَ إلى الرّؤية والوجع، والوجع يسحقها ويرميها في أعماق لولبيّةٍ لا نهائيّةٍ من الأسئلة والحيرة، والمشاهد والسّيناريوهات.

وأنت أنت هناك.. وسط الغرفة - السّاحة، تؤدّي عملَكَ بدقّةٍ متناهية، وبتفانٍ مذهل ولا تراني، لا تنتبه لوجودي، كلّ ما يَعنيك تلك الكتلة اللّحميّة أمامك، وحرارة غلياني لا تصلُك، تنتهي طاقتها في حدود رأسي الّذي تزدحم فيه آلافُ اللعناتّ على أولئك النّسوة.

وأنت؟ أنت تدلّك... وأنا؟ أنا أتوجّع وأغضب، لا عليك، بل عليهنّ.

في نفس البناء الّذي ما عدتُ أذكرُ مَعالمَه، في نفس المكان الّذي هو ربّما الدّاخل وربّما الخارج، في ساعةٍ ما عدتُ أذكرُها إن كانت صباحًا أو مساءً، أراني قابعةً منكمشة في نفس زاوية الدّيوان الّتي لا جدار يحميها، وأمامي نفس الفرشة لكنّها خالية، والمكان أيضًا خالٍ منك ومن كلّ النّسوة، ورأسي مسرحٌ فيّاضٌ بغليان الصّور والتّساؤلات والمشاهد، عروضُهُ المثيرة المقيتة تحتشدُ فتُغيّبُني عن المسرحيّة أمامي.

بحيطةٍ وحذرٍ تدخلُ إحداهنّ، تقترب منّي، عيناها تجولان المكان والفرشة بخوف وارتباك، ثمّ تُطلقُ تنهيدةَ ارتياح تمسحُ بها وجهها، ذاك اللّعينُ المطارَدُ غيرُ موجود، يستغلُّ حاجتي ليُشبعَ جوعَهُ المريض، يقهرُ ضعفي ليستمدَّ مجدَ رجولته، ويمارس على جسدي عمليّة تشويه روحي.

هكذا ببساطة، تقتحم هي رأسي وغلياني، وتتبخّرُ قبل أن أتعلّمَ النّظرَ إليها وفيها، وتأتي ثانية وثالثة ورابعة، والقصّة تعيدُ نفسَها، والوجعُ يخلق نفسه ويتفجّرُ مُتحدّيًا، وأنا كيف لي أن أستفيق من وجعي الّذي اعتدته إلى وجع يتفنّنُ في تعذيبي ويصعقني، وكيف لي أن أرحل من وجعي الّذي سكنته وسكنني، إلى وجع يهزُّني فيُشوّهُ تكويني، يقتلعني فيُشرّدني عن ذاتي، إلى وجع يحتلّني فيلغي كياني؟

كيف أتابع؟! من أين أبدأ؟! وهل هي النّهاية؟!
في بناءٍ ما عدتُ أذكرُ مَعالمَهُ، ربّما كان بقايا قصر مُتهدّم، في ركنٍ منه، ربّما كان هو الدّاخلُ أو الخارج، في ساعةٍ ما عدتُ أذكرُها إن كانت صباحًا أو مساءً، أراني قابعةً منكمشة في نفس زاوية الدّيوان الّتي لا جدار يحميها، وأرى هُوّةً سحيقة، كلّ ما هو حولي هُوّةٌ سحيقة، وكلُّ ما في داخلي هُوّةٌ سحيقة، بعضي منكمش على بعضي، في محاولةٍ مستميتة للملمة أشلائي المسحوقة، والفرشة أمامي، وكلُّ النّسوة يَدُرنَ حولها بفرحةِ مَن يمارس طقوسًا وحشيّة، تقودهنّ أنثى من ذلك العالم الّذي سبق الإنسان، فيها بدائيّةُ الوحوش وشراستُهم، وفيها طيبةُ مَن لا يعرف وغجريّتُه، وفيها ألمُ مَن جرّبَ وضغينتُه.

أتقدّمُ في شبه غيبوبة، مشدودة نحو رقصة الموت- الحياة، بترقُّبٍ مُتوتّرٍ ورهبةٍ متراخية، وأنتَ ممدّد على الفرشة، كلُّ واحدة منهنّ تقتسم منك مساحة، وتُدلّكُها بفرحةِ المنتقم، والأنثى وحش ما قبل الإنسان تشرف، تشجّع، تدفع، ترقص، تضحك، تقهقه، تُصفّق، تدور حولك وتمارس عليك طقوس الموت-الحياة، وأنت في فرشة الألم-المتعة.
أقترب، أراك قريبًا واضحًا، تتألّم، تتأوّه، ترفع رأسك، عيناك حمراوان، عينا رجلٍ لا يستطيع أن يبكي، عينا رجلٍ لا حيلة له، ألمُه بشريٌّ، لكنّه لم يتعرّف بعد على عظمة الدّمعة، تُخمد رأسك في الفرشة، تُمرّغُ وجهك فيها وترفعه من جديد.
مساحات التّدليك على جسدك نارٌ تكويك فتتلوّى، ومساحات الألم والقهر في معالم وجهك نارٌ تكويني، أنظر، تلتقي عيوننا، عيونٌ امتصّتها الخيبة. تسألني عيناك:

كيف سمحتِ بتعذيبي؟ كيف سكتِّ على وجعي؟ كيف قبلتِ بقهري وألمي؟ 

ويخمد الصّوتُ وتخمد الأضواء، وتختفي معالمُ المكان والزّمان، ويخبو بريقُنا.. شيءٌ فينا ضاع!

شيءٌ بيننا تلاشى، عندما صارَ الوجعُ في كلِّ واحدٍ منّا هُويّتَه.

شيءٌ بيننا تلاشى، عندما صارَ الوجعُ في الآخَرِ مُجرّدَ حدَثٍ باهتِ المعالمِ، في مكانٍ وزمانٍ لا هُويّةَ لهما.