الجمعة 17/10/1445 هـ الموافق 26/04/2024 م الساعه (القدس) (غرينتش)
وداع بالحبر السري 'الى خالدة جرار وجارتنا أم حسن'...شوقية عروق منصور
وداع بالحبر السري  'الى خالدة جرار وجارتنا أم حسن'...شوقية عروق منصور

بين الأم والقضبان مسافات من العشق الممنوع، بين الأم والقضبان وطناً يزهر فوق أصابع الخوف وبقايا حنين إلى احتضان الأبناء ، لا أحد يراقب مراكب الاشتياق، لأن السجان قد سرق كل شيء ولم يترك سوى تنهدات أم  تدوس على أنفاس الذين قرورا  حرمانها من رؤية وجه ابنتها قبل دفنه في تراب الوطن .

تتبعنا بألم   وحزن عميق الأم المقاومة الفلسطينية " خالدة جرار " السجينة في سجن الدامون والتي توفيت ابنتها " سهى " وهي بعيدة عنها، ولم تستطع الأم حضور جنازتها بعد أن رفضت السلطات الإسرائيلية بصلف وعنجهية بعيدة عن الإنسانية طلب المشاركة في الوداع الأخير ، ولم تجد الأم الثكلى أمامها إلا أن تحضر عبر أكليل من الورد   كان في مقدمة الجنازة ، كتب عليه " حرموني وداعك بقبلة أودعك بوردة " .

في زمن صناديق السياسيين الفارغة والانتقام المصاب بلوثة العنصرية والصهيونية ، تصبح الوردة الطريق والجسر الذي يحمل صرخات القلب المصاب بالهذيان.

الأم " خالدة جرار " التي تنزف وجعاً من بعيد ، تذكرنا بأمهات عشن متلاصقات بوجوه أبنائهن وهن يعرفن أن أبنائهن دفعوا أعمارهم من أجل الوطن، وقبورهم غير معروفة ، وإذا كانت " مقابر الأرقام " سيئة الصيت في إسرائيل   تحوي مئات الجثث للأبناء والأزواج والأخوة والأصدقاء لا تحمل الأسماء بل تحولت الى ارقام تتنزه في أجواء سياسية مقيتة ، هناك في المقابل ، في زوايا النسيان تقبع الأمهات والأخوات والزوجات يمضغن حزن الغياب .

حزن الأم " خالدة جرار " يذكرني بالشاب "حسن " الذي أراد أن يرى والدته فهو الأبن الوحيد لها وقد جاء متسللاً من لبنان بعد النكبة ، أراد العودة إلى قريته ، لكن غرق  كما كانت تقول " أمي " بنهر المقطع- يعرف بنهر حيفا يجري شرقي جنين في الضفة الغربية -  ولم يعرفه أحد عندما طفت جثته، وقد قامت إسرائيل بتسليمه للجيش اللبناني بعد ذلك ولم تعرف الأم بوفاته إلا بعد عدة سنوات، ودائماً كانت حسرتها تنطلق بآهاتها النارية، تردد " لو حضنته ، لو شميت ريحته ، لو أعرف قبره " ورغم موت أم حسن لكن  ما زالت آهاتها  تدق ذاكرتي بإيقاع الأمومي الحزين .

كل بيت في فلسطين له حكاية مع موت الغربة ، موت الشتات ، الموت بعيداً عن الأهل ، موت الأمهات والآباء والأخوة والأبناء في السجون أسرى الحرية  ، وتكون أول زيارة للأبناء  عندما يطلق سراحهم الهرولة إلى  المقابر كي يبكون بحرية، بعد أن كان شعارهم التماسك أمام السجان .

 كثيرة هي الحكايات مع الموت البعيد، الذي يتحول الى قبضة حزن تعصر   القلب ولا تجد ملاذاً سوى الدموع وفتح دفاتر الذكريات .

الأم الفلسطينية قضت عمرها وهي تتعارك مع الأقدار التي تحرمها من الهدوء والاطمئنان ، وكلما حاولت وضع رأسها على ركبة الأبن وتراه بعين الأمومة كبيراً ، ناضجاً قوياً ، تركلها الأحداث وتعيدها الى فقدان الأبن و وجع الأمومة .

الأم" خالدة جرار "  تعيد للأمومة الوجع المبطن بكاتم الصوت ، وحتى تبقى قوية أمام جلادها تتغطى بثياب الثبات، مثلها مثل جميع الأمهات الفلسطينيات يزغردن ويقمن بالغناء عندما يستشهدن الأبناء ، ولكن قلائل هم من يعرفون أنهن – أي الأمهات -  يكتبن عذابهن بالحبر السري حتى لا يراه الأعداء ويشمتوا بهن .