الأحد 26/10/1445 هـ الموافق 05/05/2024 م الساعه (القدس) (غرينتش)
(بين مطرقة الجلاد وسندان الكهنة) ...عصام عبود

استوقفني سؤالٌ : ( لماذا يكره المتزمتون المتنورين ) فهذا الكره ليس جديداً في العالم العربي خاصةً وفي أوروبا عامةً ،ولم يقتصر هذا الإنغلاق الفكري على الحقد والذم فحسب بل أنه أخذ أشكالاً كثيرة على المستويين العربي والأوروبي منها القتل والنفي كما حدث مع أبي منصور الحلاج ومحي الدين ابن عربي، أما على المستوى الأوروبي فقد عاقبت الكنيسة عالم الفلك الإيطالي غاليليو غاليلي بعقوبتي الإقامة الجبرية ومنع مؤلفاته كما عاقبت الرسام والنحات الإيطالي أيضاً مايكل أنجلو الذي نحت العري البشري واتهمته بالفحش.

ولكن الفرق بين أوروبا والعالم العربي أن الكنيسة قد اعترفت بخطئها وقررت تكريم غاليليو وأنجلو بعد موتهما وهذا ليس بدافع الاعتراف بالذنب وإنما التداعيات السياسية بانحدار الفكر الراديكالي هي التي حكمت أوروبا وهذا لا يعني أن أوروبا تخلصت من تعصبها فما زالت تحتكم إلى الكنيسة وما زالت الكنيسة تملك قوةً اقتصادية في أوروبا إن التغيير في الواقع الأوروبي هو تغيير شكلي لإقناع الأوروبيين أن الحرية والديمقراطية حلت محل العقوبات الكنسية ولكن في الحقيقة إنها ديمقراطية مفروضة من قبل النظامين الديني والسياسي السائدين في أوروبا

أما في الواقع العربي فما زال الفكر الراديكالي مسيطراً علينا حتى وقتنا الحاضر

وفي الوقت الحاضر ربما تغيرت الأساليب قليلاً في ظل التطورات التي يشهدها العالم فلم يعد القتل يجدي نفعاً كافياً بقدر ما أصبح استعباد الطاقات البشرية هو المطلوب فمنذ بداية الخلق لم يكونوا الناس مقسمين إلى جلادين وضحايا (صيادين وأرانب) ولكن أنظمة القمع والاستغلال هي التي تعمل بكل وسائلها وقوتها على جعلهم ينتمون إلى هذا التقسيم وما الدين إلا وسيلة وقوة في يد أي نظام سياسي في العالم كما قال لينين : (( الطبقات الحاكمة كلها تحتاج للحفاظ على سيطرتها إلى طبقتين اجتماعيتين هما الجلاد والكاهن )) فبعد أن يقوم الجلاد باستغلال الشعوب وقهر تطلعاتهم وأحلامهم يأتي دور الكاهن في أن يسوغ الظلم الذي وقع على الظلومين الذين لم يستطيعوا رفع الظلم عن أنفسهم على أنه مأجور ومعوضُ عنه في الآخرة

وهذه العلاقة بين السياسي والقدسي هي علاقة رعويةٌ فكلاهما يسعى للتحكم بحياة الرعية وقيادتها إلى المرعى الذي يناسبه من خلال وسائلهما وقوانينهما كما أن خطابهما يميل إلى خلق صيغة لغوية ذات طبيعة آمرة وناهيةٍ وهذا الخطاب لا يسعى لإقناعنا بل لإخضاعنا ومع أن هذه العلاقة هي نوعٌ من الخصام إلا أنها نوعٌ من الصداقة أيضاً فغالباً ما تكون هذه العلاقة تقوم على إعطاء الصبغة الشرعية لجميع ممارسات هذين النظامين  وحماية بعضهما البعض وتظهر هذه العلاقة الوطيدة بينهما عند فرانسو لوجاندر حيث يقول: ((في حين أن الكاهن يمارس قمعاً على التصور الخيالي ويضمن الامتثال لنظام ما كذلك يظهر ما هو سياسي بمظهر القدسية حتى أن المساس بسلطة الدولة يميل إلى أن يعد كفراً )).

في الحقيقة إن الأمر لا يتعلق بنظام  يظهر بثياب القداسة أو يظهر عارياً بل إن النظام السياسي يستفيد من قداسة الخطاب وامتلاكه لغةً زجريةً تمارس على المخاطب للتأثير على انتماءه السياسي وهذا يتطلب من الأنظمة القمعية أن تقيم كل الاحتفالات والمناسبات ذات الطابع العقائدي السائد في كل دولة فيفاجئنا أن أغلب الدول التي تدعي العلمانية هي دول قائمة على الفكر الراديكالي وما العلمانية فيها إلا صورة وهمية لإقناع الجماهير أنها تلبي رغباتهم في حين أنها تلبي أفكار الفئات المتزمتة فيها لكي تستخدمهم كوسيلة من وسائل قمعها مثل أجهزة الأمن والشرطة  وهذا ما يساعد الجامدين في أي مجتمع إنساني على التغلغل في السلطة لأنهم يعرفون مدى حاجة أصحاب الدولة إليهم وإلى تأثيرهم على الطبقات المستضعفة في أي مجتمع فالأمر لا يتعلق بالإمكانيات إطلاقاً وإنما بالمكانة الاجتماعية ولهذا يظهر المتزمتون بصورة معارضة لسياسة الحكم في الدولة وهي صورة شكلية طبعاً  لنيل استرضاء الدولة لجماعاتهم خوفاً من أن تنقلب السلطة عليهم فينحدرون ويخسرون الامتيازات التي حصلوا عليها من السلطة نفسها مثل الاستقلالية في نشر أفكارهم ومقاعدهم البرلمانية وجمعياتهم الخيرية ووزارتهم المعروفة بالأوقاف والتي قد تكون من أغنى وزارة بين وزارات الحكومات العربية

وكأنهم  يقولون سنرى من منا يمثل على الآخر بشكل أفضل ؟؟

ومن هنا يأتي ذلك العداء الذي تحدثت عنه في البداية وعن كره المتزمتين للمتنورين وللطليعة المبدعة ولعلّ هذا السؤال يتيح أمامنا سؤالاً أخر ( كيف استطاع هذا العداء أن يصل إلى القرن الواحد والعشرين في عالمنا العربي وأن يجتاز كل تلك الأحداث التي حدثت منذ ألف عام دون أن يتلاشى أو يموت )

إن الحقد الموروث على هؤلاء المبصرين  ورواد الفكر والفن في عالمنا العربي يأتي من أهمية دورهم في تخليص الإنسان العربي من بؤسه ولطالما كان هدف أي سلطة قمعية هي الهيمنة على الطاقة البشرية واستغلالها لكسب المال والنفوذ وتوسيع سيطرتها بواسطة الجلادين والكهنة لتتمكن من ضرب أي حركة معاكسة لمسار نظامها فلا بد من تظهير الفئة التي يمكنها إزالة هذا الظلم على أنها فئة ضالة وفاسقة ومعادية للإذعان الذي يعشيه المظلوم مع الظالم تحت مسمى السلام وأما عن المتنورين والاعتداء عليهم من قبل الرجعيين يأتي من دورهم في نشر أي فكرية روحية تتصل بالله دون تكاليف مادية وأن الإنسان يمكنه أن يصل إلى الارتقاء الروحي دون الحاجة إلى وسيط بينه وبين الخالق ودون الحاجة إلى أفخم المعابد لإقامة هذه الصلة الروحية وأنه باستطاعته أن يكتشف ذاته الإنسانية فيكسد بذلك سوق التخدير والاستغلال وتسقط كل تلك المؤسسات القائمة على استغلالنا بين الأنظمة الاقمعية وبين الكهنة إذا عرف الإنسان نفسه.

2020-04-22