تبايُن المواقف من خطاب الرئيس أبو مازن في مجلس الأمن يُعطي مؤشراً خطيراً ليس فقط على استمرار عقلية وواقع الانقسام الفلسطيني بل أيضاً استمرار حالة التيه السياسي وغياب أية رؤية أو استراتيجية للرد العقلاني والواقعي على خطة ترامب ،وهو رد كان من المُفترض أن يتبلور منذ أن أعلن ترامب عن الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة للقدس وعندما أوقفت واشنطن المال عن السلطة وجَهرت بموقفها الرافض لحق عودة اللاجئين وعندما أغلقت مقر منظمة التحرير في واشنطن ،بل حتى قبل مجيء ترامب عندما توقفت المفاوضات الرسمية بين الفلسطينيين والإسرائيليين .
خطاب الرئيس أبو مازن في مجلس الأمن لم يختلف عن خطاباته في المحافل العربية والإسلامية والإفريقية بل كانت حدة نبرة الخطاب في مجلس الأمن أخف . ما تمناه البعض من أن يكون الخطاب أكثر وضوحاً وحدة في مواجهة واشنطن وتل أبيب وأكثر وضوحاً في التأكيد على الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني بما في ذلك حقه بمقاومة الاحتلال وشرعية هذه المقاومة مع التركيز على التمييز بين عنف دولة الاحتلال وعنف الشعب الفلسطيني الذي يدافع عن أرضه ،إلا أنه في اعتقادي ما كان للرئيس إلا أن يتكلم بهذه اللغة في مخاطبته لأعضاء مجلس الأمن والعالم لعدة أسباب منها :
بعد أيام ستنتهي هوجة أو موسم التنديد والرفض للصفقة ،وهي معارضة وإن كانت مطلوبة للتعبير عن الرفض الشعبي لأية تسوية تتجاهل الحد الأدنى للحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني كما تم بلورتها في المجلس الوطني في الجزائر 1988 ،إلا أنها لن ترتدع إسرائيل وأمريكا وتدفعهما للتراجع عن الصفقة ،وإن كان من الممكن أن تدفعهما كنوع من المناورة للحديث عن تعديل الصفقة والبحث عن وسطاء لجلب طرف فلسطيني لطاولة المفاوضات .
لا نتفق مع الذين يبالغون ويُهوِّلون من حالة الرفض لصفقة ترامب –نتنياهو لدرجة أن البعض يعتبرها ولِدت ميتة ،بل نؤكد على خطورة هذه الصفقة وضرورة الاستعداد لمواجهتها ،وذلك لعدة أسباب :-
لا نقلل من أهمية موقف الرئيس الرافض حتى الآن للصفقة وهو الزعيم الفلسطيني والعربي الوحيد الذي يتحرك عبر العالم بالرغم من مرضه وكِبر سنه مدافعا عن حقوق الشعب الفلسطيني ،فيما الزعماء الآخرون يكتفون بالرفض العلني وبعضهم ينتظر نصيبه من الصفقة ،كما نؤكد على أهمية الحراك الدولي في الأمم المتحدة وخارجها والتمسك بقرارات الشرعية الدولية ، إلا أن الرئيس وإن حاول أن يكون واقعياً وعقلانياً وإن نجح نسبياً في كشف حقيقة صفقة ترامب –نتنياهو والتحريض عليها حتى لا تكتسب شرعية رسمية ومُعلنة ،إلا أنها تبقى عقلانية وواقعية منقوصة إن اقتصرت على الرفض والتمسك بقرارات الشرعية الدولية التي لا يُعتد بها في زمن الواقعية السياسية ،كما أنها تفتقر إلى أهم مكونات الواقعية السياسية وهي القوة وحسابات المصالح .
حتى تؤتي عقلانية وواقعية الرئيس أبو مازن أوكُلها يجب دعمها بمصادر قوة توجد عند الشعب الفلسطيني ويمكن تفعيلها بالوحدة الوطنية وتثبيت وجود الشعب على أرضه كوجود مقاوِم وليس مجرد كم عددي ،وهذا أمر ممكن وخصوصاً أن الصفقة المشبوهة لا تستثني أحداً في غزة والضفة والقدس وفلسطينيي 48 وفي الشتات ،وخطوة إلغاء الاتفاقات الموقعة بين إسرائيل ومنظمة التحرير إن كانت جادة ومشفوعة بآليات تنفيذ على الأرض وبوحدة وطنية تنهي الانقسام ستكون خطوة في الاتجاه الصحيح ،والشعب الفلسطيني عظيم ولديه عناصر قوة يجب استنهاضها بطريقة عقلانية .
ونقولها بصراحة للذين يعارضون نهج الرئيس ،إن مسؤولية مواجهة الصفقة ليست مسؤولية الرئيس والسلطة الفلسطينية فقط بل مسؤولية الجميع ولا داع للشماتة بالرئيس والسلطة بالزعم بأن الصفقة صفعة للرئيس ومنظمة التحرير ولكل من راهن على التسوية السياسية والشرعية الدولية ،ونقول للشامتين ،منذ سنوات ونحن نسمع خطاب الرفض للسلام وللتسوية السياسية والزعم بأن المقاومة المسلحة هي الرد والبديل لنهج التسوية ولنهج أوسلو ،وها هي التسوية فشلت وما هو مطروح أكثر خطورة من تسوية أوسلو ،فأين المقاومة المسلحة والعمليات الجهادية ؟ وهل يُعقل أنه في الوقت الذي تواجه القضية خطر التصفية من خلال صفقة ترامب –نتنياهو تتمسكون بالهدنة مع إسرائيل وبالانقسام ؟.
ليست هذه دعوة للعودة للمقاومة الفصائلية الموسمية بالشكل الذي كانت عليه بل دعوة لتوحيد الموقف الفلسطيني بالوحدة الوطنية واشتقاق استراتيجية مقاومة شعبية تُشعر الاحتلال بأن مخططاته لتنفيذ الصفقة وضم المستوطنات لن تمر بدون ثمن ،ولا نقصد بالثمن مزيد من القرارات الدولية بل بما سيدفعه المستوطنون من دمائهم وراحتهم ومصالحهم ،وتدفعه دولة الاحتلال بإبقائها في حالة توتر وتحت الضغط وعدم الاحساس بالأمان .