السبت 18/10/1445 هـ الموافق 27/04/2024 م الساعه (القدس) (غرينتش)
اتفاقية المناخ في باريس: عدم تحميل الدول الصناعية المسئولية الأساسية عن الانبعاثات الغازية وعدم إجبارها على تخفيضها بما يتناسب مع الحقائق العلمية...جورج كرزم

مركز العمل التنموي/معا

أقر مؤتمر المناخ الدولي (COP 21) في 12 كانون أول 2015 اتفاقية منع التغيرات المناخية التي تهدف إلى الحد من الاحترار العالمي بأقل من درجتين مئويتين (سلزيوس) حتى عام 2050؛ وذلك بعد أسبوعين مكثفين من المفاوضات، علما أن الاتفاقية التي أقرتها 195 دولة مشاركة في المؤتمر ستدخل حيز التنفيذ عام 2020.  وبحسب أقوال لوران فابيوس وزير الخارجية الفرنسي، فإن الاتفاقية ستحد من ارتفاع حرارة الكرة الأرضية (الاحترار العالمي) بأقل من درجتين مئويتين، بالمقارنة مع فترة ما قبل "الثورة الصناعية".  بل إن الاتفاقية تطمح إلى الحد من الاحترار العالمي بمقدار درجة ونصف سلزيوس حتى نهاية القرن الحالي.  الهدف الأخير (درجة ونصف) جاء نتيجة ضغط الدول القائمة على جزر صغيرة وبلدان فقيرة أخرى.

وطبقا للتقديرات العلمية، فإن ارتفاع درجة الحرارة بأكثر من درجتين مئويتين قد يتسبب في تغيرات مناخية خطيرة.

بالطبع، ستبرز صعوبات جدية أثناء عملية التصديق الرسمي لحكومات الدول الموقعة على الاتفاقية؛ فعلى سبيل المثال، من غير الواضح فيما إذا ستحظى الاتفاقية على مصادقة الكونغرس الأميركي، علما أن الولايات المتحدة الأميركية لم توقع على أية اتفاقية مناخية ملزمة لتقليل الانبعاثات الغازية (اتفاقية كيوتو).  الرئيس الأميركي باراك أوباما الذي يعد أحد أبرز المؤيدين لاتفاقية المناخ، سيحاول الحصول على مصادقة الكونغرس لها قبل الانتخابات التي ستجري خلال السنة الحالية.

قبل التوقيع على هذه الاتفاقية، كانت معظم دول العالم معفاة من العمل على تقليل الانبعاثات، لأنها مشمولة ضمن مجموعة الدول النامية.  لذا، فإن مجرد التوصل إلى اتفاق يعد خطوة هامة في مسيرة النضال ضد التغيرات المناخية. 

تم التوصل إلى هذه الاتفاقية في نهاية عام 2015 الذي سجل أعلى سخونة للكرة الأرضية؛ وذلك بعد أربع سنوات من المحادثات التي اتسمت أحيانا بالتوتر (تحت رعاية الأمم المتحدة) والتي جرت بين الدول القائمة على جزر صغيرة وتواجه خطرا وجوديا بسبب ارتفاع مستوى المياه في المحيطات، من ناحية، والدول الكبرى الغنية التي ينبعث منها غازات الدفيئة بشكل مكثف.    

تقليل الانبعاثات في كل دولة من الدول الموقعة على الاتفاقية يستند إلى الأهداف الطوعية التي أعلنت عنها تلك الدول قبل التوقيع.  إلا أن نص الاتفاقية يقول بوضوح بأن تقليل الانبعاثات الذي تعهدت به الدول المختلفة غير كاف؛ إذ وفقا للتعهدات الحالية، تشير التقديرات العلمية إلى أنه في سنة 2030 سيصل مستوى الانبعاثات العالمية لغازات الدفيئة إلى 55 جيجا طن (= 55 مليار طن) سنويا، رغم أنه يفترض ألا يتجاوز العالم مستوى أل 40 جيجا طن كي يستطيع تحقيق هدف الحد من ارتفاع حرارة الأرض بما لا يتجاوز درجتين مئويتين، بالمقارنة مع ما قبل العصر الصناعي.

علاوة على ذلك، سيتم لاحقا تحديد أهداف إضافية وفقا لتوصيات طاقم دولي تابع للأمم المتحدة، وذلك في تقرير يتوقع أن ينشر خلال العام 2018؛ ما يعني أن المعركة حول كيفية تنفيذ الاتفاق لا تزال في بدايتها، وبالتالي سيزداد تعقيد هذه العملية كلما طلب من البلدان اتخاذ إجراءات إضافية.  إلا أن القيام بأي عمل في هذا المجال سيكون، من الآن فصاعدا، في إطار قواعد لعبة جديدة تتلخص في الاتفاق المبدئي على ضرورة الالتزام بتقليل الانبعاثات.  وتبعا لذلك، في عام 2020 ستكون الدول التي وقعت على اتفاقية تغير المناخ ملزمة بالإعلان عن التزاماتها (الجديدة) لتقليل الانبعاثات بحلول منتصف القرن الحالي؛ بما يتماشى مع أهداف أكثر طموحا.

جانب جديد آخر وهام تضمنته الاتفاقية هو تحديد آليات تسمح للأمم المتحدة بتحليل وتدقيق معطيات انبعاثات الدول الموقعة على الاتفاقية.  هذا البند تحديدا يهدف إلى زيادة الشفافية التي كانت مفقودة في هذه المسألة، وهذا الغياب جعل من الصعب تنفيذ سياسة دولية.

فيما يتعلق بمسألة تمويل عملية التكيف مع التغير المناخي، اتبعت الاتفاقية ذات الاستراتيجية (كما في الاتفاقيات السابقة) الهادفة إلى "تفادي الألغام"، والتي استخدمتها معظم الدول الأعضاء في مسألة الالتزام الكمي لتخفيض الانبعاثات.  بناء عليه، تنص الاتفاقية على أنه حتى مؤتمر المناخ الذي سيعقد عام 2025 سيتم بلورة اتفاقية خاصة بالتمويل، بما لا يقل عن 100 مليار دولار سنويا، يتم تحويلها من الدول المتقدمة إلى الدول النامية.  هذه الفترة الزمنية الطويلة تهدف كسب الوقت الكافي لمحاولة بلورة الاتفاقية التمويلية.  ومن بين أمور أخرى، من المتوقع أن تطالب الدول المتقدمة العريقة بأن تنضم بعض دول منطقة الخليج، وربما الصين أيضا، إلى الجهود الرامية لمساعدة البلدان النامية.

 

غياب التعهد الغربي بكسر احتكار المعرفة العلمية والتقنية

المسألة الصارخة أن اتفاقية باريس تركت فجوات كبيرة بين هدف الحد من الاحترار العالمي إلى ما دون الدرجتين مئويتين، وبين المدى الفعلي الذي ستخفض فيه الانبعاثات.  بالإضافة إلى ذلك، من الواضح أن تغيرات واضحة في النظام الاقتصادي العالمي يمكن أن تؤثر على مدى التقدم في تنفيذ بنود الاتفاقية. على سبيل المثال، أزمة اقتصادية حادة أو مزيد من الانخفاض في أسعار النفط قد يغير منظومة صنع القرار في بعض البلدان.  

تخوفنا الأساسي في مجلة آفاق البيئة والتنمية، هو أن التقليص المتوقع في انبعاثات غازات الدفيئة لن يؤدي إلى سخونة الأرض بما لا يتجاوز الدرجتين مئويتين (قياسا بمتوسط درجة الحرارة قبل الحقبة الصناعية).  كما أن الاتفاقية لا تفرض على أي دولة، وبخاصة الدول الغربية الصناعية، سقفا كميا لتقليل انبعاث غازات الدفيئة.

الاتفاقية لا تمنح الشعوب والمجتمعات البشرية التي تقف في جبهة المواجهة الأمامية للتغيرات المناخية أملا حقيقيا؛ لأن التزام الدول (وبخاصة الرأسمالية الغربية) التي أوصلتنا إلى حافة الخطر الوجودي غير كاف وضعيف نسبيا.  الاتفاقية لوحدها لن تنقذنا من الهبوط في الهاوية العميقة، لكنها، دون شك، تشكل تحسنا هاما في المواقف.

دول الجزر، في أعقاب مؤتمر باريس، لا يزال يسودها القلق الشديد من احتمال ارتفاع مستوى سطح البحر.  لذا، تمت محاولة ترضيتها ببند غير ملزم يعبر عن مجرد طموح شكلي يتمثل بأن لا يزداد الاحترار العالمي أكثر من درجة ونصف سلزيوس حتى نهاية القرن الحالي.

في الواقع، لا يزال التحذير الذي أثرناه في حينه بهذه المجلة قائما (في مقال: "قمة المناخ القادمة في باريس: هل ستجسد مرة أخرى المصالح السياسية الضيقة للدول الغنية؟"، عدد تموز 2015)؛ ويتلخص التحذير في أن اتفاقية باريس الحالية، كما الاتفاقية التي سبقتها في كانون أول 2014 في المؤتمر المناخي بمدينة ليما (عاصمة جمهورية البيرو)، تمنح الدول الغربية الرأسمالية مساحة لا نهائية تقريبا للمناورة، بحيث تستطيع من خلالها ملاءمة أهداف انبعاثاتها لاحتياجاتها ومصالحها الخاصة.  

نص اتفاقية باريس، كما اتفاقية ليما من قبلها، لم يحمّل الدول الصناعية الغربية المسئولية الأساسية في الانبعاثات الغازية، وبالتالي إجبارها على الالتزام بتخفيض الانبعاثات بنسب كمية كبيرة واضحة تتناسب مع الحقائق العلمية.  والأهم من ذلك، لم يساهم مؤتمر باريس في بلورة تعهد غربي، في أي اتفاق مستقبلي، بكسر احتكار المعرفة العلمية والتقنية الخاصة بالسلع البيئية، والتعهد الملزم قانونيا بتقديم المعلومات عن التكنولوجيا النظيفة.

باعتقادنا، مؤتمر باريس جسد مرة أخرى، المصالح السياسية المحلية الضيقة للدول الصناعية الرأسمالية، وبخاصة الولايات المتحدة التي لا تزال حتى يومنا هذا تعارض بقوة فرض أهداف محددة للانبعاثات، بذريعة أنها تؤيد بلورة نظام مرن يترك المجال للدول المختلفة بأن تحدد بنفسها سقف مساهماتها!                                           

 

ما العمل فلسطينيا؟

في المستوى الفلسطيني، يفترض بالمنظمات البيئية والوزارات الفلسطينية ذات الصلة بأمور الطاقة (وبخاصة وزارة البيئة وسلطة الطاقة، إضافة إلى وزارة المالية)، أن تعمل اليوم قبل الغد، على تشجيع الاستثمارات وتوفير الحوافز، إضافة إلى تأهيل القوى البشرية الماهرة والمدربة، للتحول التدريجي نحو الطاقات الخضراء البديلة والمتجددة التي لن تسهم فقط في مواجهة التغير المناخي، بل ستشكل أيضا فرصة اقتصادية، استثمارية وتكنولوجية، وستسهم كذلك في تعزيز الاقتصاد الفلسطيني على المدى البعيد؛ من حيث زيادة فرص العمل ومصادر تمويل السلطة الفلسطينية (وبخاصة الضرائب)، وبالتالي التقليل من التبعية الاقتصادية للاحتلال (وبخاصة في الوقود، المحروقات والكهرباء التي يتحكم بها الأخير بشكل مطلق).  كما يسهم التوجه نحو تقليل الانبعاثات وتشجيع الطاقات النظيفة، إلى تشجيع الاستثمارات في التكنولوجيا النظيفة غير الملوِّثة، فضلا عن توجيه جزء هام من الاستثمارات والموازنات نحو تطوير قطاع المواصلات العامة في الضفة الغربية وقطاع غزة (الحافلات، القطارات...تنمية البنية التحتية والطرق والشوارع...إلخ).  تحسين كفاءة استخدام الطاقة سيوفر أموالا كثيرة للاقتصاد الفلسطيني.  الإجراءات المختلفة لتقليل التلوث سوف تؤدي إلى انخفاض كبير في تكاليف علاج الأمراض الناجمة عن التلوث.

 

تبجح وتجاهل متعمد للانبعاثات الإسرائيلية الضخمة

جهات دولية عديدة (بما فيها مؤسسات تابعة للأمم المتحدة) تجاهلت الزيادة الضخمة في الانبعاثات الغازية الإسرائيلية، خلال العقود الأخيرة، وبخاصة ثاني أكسيد الكربون، مما أثر بشكل كبير ومباشر على ارتفاع درجات الحرارة في فلسطين التاريخية، وبالتالي على التغير المناخي الواضح فيها.   

وبالرغم من زيادة توليدها للكهرباء من الغاز الطبيعي المنهوب من الأرض الفلسطينية في السنوات الأخيرة؛ لا تزال إسرائيل تولد معظم طاقتها الكهربائية بطرق بدائية قديمة وخطيرة وملوثة جدا للبيئة الفلسطينية، وتحديدا من الفحم الذي يحرق لتوليد الكهرباء (الغاز الطبيعي يعتبر أيضا وقودا أحفوريا، يتسبب حرقه لتوليد الكهرباء في انبعاثات لا تقل خطورة عن الغازات الناتجة من حرق الفحم). 

حصة إسرائيل من إجمالي الانبعاثات الصادرة عن دول المنطقة هي الأكبر.  ففي إسرائيل ينبعث أكثر من 12 طن غازات دفيئة للفرد سنويا، أي أكثر من المتوسط للفرد في الدول الأوروبية والبالغ نحو 10 طن.

وفي المقابل، قدر إجمالي حصة الفرد الفلسطيني من انبعاثات ثاني اكسيد الكربون في الضفة والقطاع  حوالي 1.03 طن/ فرد سنويا.

كما تسببت الحروب التي شنتها إسرائيل في السنوات الأخيرة، فضلا عن المناورات والتدريبات والعمليات العسكرية العدوانية اليومية الموجهة ضد الفلسطينيين والعرب في فلسطين ولبنان وغيرهما، في انبعاث مئات ملايين الأطنان من ثاني أكسيد الكربون وسائر غازات الدفيئة.  وتعادل كمية ثاني أكسيد الكربون المنبعثة نتيجة للنشاطات العسكرية الإسرائيلية العدوانية تلك الكمية الناتجة عن تسيير ملايين السيارات في شوارع فلسطين وسائر أنحاء الوطن العربي.

ولو أردنا التعبير عن خطورة الدور الإسرائيلي في تفاقم الانبعاثات الغازية في المنطقة وبالتالي دورها في التغير المناخي الحاصل، باستخدامنا لمؤشر البصمة الكربونية؛ نجد عندئذ أن إسرائيل تملك أكبر البصمات الكربونية في العالم؛ علما أن  البصمة الكربونية تعتبر سلما لقياس مساحة الأرض التي يحتاجها الفرد للحياة بنمط معين.  ويهدف قياسها إلى تفهم تأثير أسلوب حياتنا على كوكب الأرض؛ وبالتالي بذل الجهد الوطني المطلوب لتحقيق مستقبل مستدام.

فلو علمنا أن المعدل العالمي للبصمة الكربونية هو 22 دونما للفرد، فعندئذ، سنجد أن الولايات المتحدة وإسرائيل تتصدران هذا السلم؛ إذ إن البصمة الكربونية لدى الولايات المتحدة 95 دونما للفرد، ولدى إسرائيل أكثر من 55 دونما للفرد. وبينما ينقص الولايات المتحدة 46 دونما للفرد (أي العجز في الموارد الطبيعية، ذلك أن السعة البيولوجية للولايات المتحدة نحو 49 دونما للنسمة)؛ فإن إسرائيل ينقصها 51 دونما للفرد (العجز في الموارد الطبيعية، لأن السعة البيولوجية لدى إسرائيل=4 دونم للفرد)، وبهذا تكون هذه من أكبر الفجوات العالمية بين المطلوب (البصمة الكربونية) والموجود (السعة البيولوجية).  وهذا ناتج أساسا عن عمليات النهب الإسرائيلي الهائل للموارد الطبيعية الفلسطينية، وبخاصة الأرض والمياه.

وفي المقابل، بلغت البصمة الكربونية للضفة الغربية وقطاع غزة خلال العام 2012 حوالي 4.6 دونم للفرد الواحد، بينما بلغت السعة البيولوجية للضفة والقطاع خلال ذات العام 1.3 دونما للفرد الواحد وبذلك يبلغ العجز 3.3 دونما؛ وهذا ليس ناتجا عن الاستنزاف الفلسطيني للموارد الطبيعية، بل أساسا نتيجة محدودية الموارد المتاحة للفلسطينيين؛ بينما تستنزف إسرائيل معظمها. 

ورغم تبجح إسرائيل بأنها من الدول الرائدة عالميا في صناعة التكنولوجيا النظيفة، إلا أن نسبة استخدامها للطاقات المتجددة (داخل إسرائيل) لا تتجاوز 2% فقط.

2016-03-02