السبت 18/10/1445 هـ الموافق 27/04/2024 م الساعه (القدس) (غرينتش)
الأسطورة الدائمة لعاموس عوز الصهيوني الليبرالي.... ترجمة صالح الرزوق

 

يعاني ما يسمى "اليسار الصهيوني" من تهميش وحصار يفرضه عليه اليمين الوطني الإسرائيلي، ومع ذلك احتفظ اليساريون خارج الحدود بتأثير أخلاقي وثقافي. وربما كان عاموس عوز الذي توفي عن عمر يناهز 79 عاما في 28 كانون الثاني عام 2018، أفضل من يمثل هذا التيار السياسي، بسبب شهرته على نحو واسع عالميا - كما ذكرت النيويوركير عام 2004 - وأطلقت عليه لقب "داعية وعراب السلام الإسرائيلي". هذه الصورة للفنان الليبرالي أو النبي دعمها، على نحو غير قليل، التبدل السياسي في إسرائيل، لدرجة أصبح فيها أي صوت ناقد ومعتدل في زمرة "الخونة". ومع ذلك احتفظ عوز برأي مخالف، فيما يتعلق بالأحداث التي جرت في الماضي أو التي تحصل الآن، وبالأخص فيما يتعلق بمعنى الصهيونية برأي الفلسطينيين. تبييض النكبة أنفق اليسار الصهيوني، وعوز جزء منه، مجهودا عاليا لتبرير التطهير العرقي في فلسطين. وفي مركز مشاركة عوز بهذه الجهود الاستعارة التالية التي وردت في كتابه "أرض إسرائيل"، ويقول فيها إن:"مبرر الصهيونية فيما يتعلق بالعرب الذين ينافسون على هذه الأرض هو عدالة الإنسان الذي يغرق ويتمسك بلوح وحيد يستطيع أن يصل إليه. وهذا الرجل الغريق المتمسك بطوفه مسموح له بكل مقاييس العدالة الطبيعية والموضوعية والكونية، أن يجد لنفسه مكانا على الطوف، حتى لو أنه خلال محاولته دفع جانبا الآخرين لمسافة بسيطة. وحتى لو أن الآخرين الجالسين على الطوف، لم يتركوا له خيارا غير استعمال العنف". باستثناء أن أحدا لم يطلب من الفلسطينيين "المشاركة بالطوف"، وتم طردهم بجماعات، وسويت قراهم بالأرض وفرغت مدنهم من سكانها، واستمرت سياسة استبعادهم من مسقط رؤوسهم ببساطة لأنهم ليسوا من اليهود. علاوة على ذلك، هل يمكن لغير المتوحش أن يرفض إتاحة مساحة على لوح من الخشب لشخص يغرق؟. دور عوز هنا مزدوج: وهذا الازدواج يخفي النكبة ويلوم ضحاياها ويرى أنهم جماعة من البدائيين الذين "أجبروا" على "تقاسم لوح الخشب العائم". النسق الخاطئ يستعمل عوز الاستعارة لإطلاق سياق خاطئ ونفي مسؤولية سياسية. فالفلسطينيون والإسرائيليون "جيران" ويحتاجون لـ "أسوار مرتفعة"، زوجان بحاجة لـ "طلاق ضروري"، مريض بحاجة لعمل جراحي "مؤلم". في عام 2005 قال في "ليبريشن": "إسرائيل وفلسطين.. مثل سجان وسجينه، كل منهما مقيد بالآخر. بعد سنوات عديدة، لا تجد فارقا واضحا بينهما: السجان ليس طليق السراح أكثر من سجينه". هذا الإنكار لبنية السلطة، والمساواة بين واقع المحتل مع ذاتية المستعمر، كان نمطيا. كتب يقول:"المواجهة بين اليهود العائدين إلى صهيون والسكان العرب ليست مجرد فيلم غربي أو ملحمة، ولكن أشبه بتراجيديا إغريقية". وكرر تنويعات على هذه الصياغة عدة مرات مثل قوله: "الصدام بين اليهود الإسرائيليين والعرب الفلسطينيين… صدام بين حق وحق.. نزاع بين ضحايا". وأن تتكلم عن "تراجيديا" يعني أن تجعل خطوط القضية غامضة عمدا، وأن تستبدل موضوعك برثاء لسوء الحظ، و ربما، أن ترسم الحركة الصهيونية (أو عوز نفسه) بصورة بطل تراجيدي، مع أن أفعاله فعليا ذات عواقب وخيمة تنال من الآخرين، ولكنها تأخذ منحى شريفا في ضميره الشخصي. وكما قال ساري مقدسي: "ليس من الواضح بنظر عوز وجود فريقين مذنبين بالتساوي، أو أكثر من فريقين، في هذا النزاع. وبالنهاية الشرير الحقيقي في التاريخ بنسخة عوز هم الفلسطينيون، الذين يتوجب عليهم الاعتراف بالصهيونية كحركة تحرير وطنية، وأن يرحبوا بها بذراعين مفتوحين". في مقال نشر منذ سنوات، ادعى عوز أن "وجود إسرائيل أو دمارها ليس مسألة حياة أو موت" مثل سوريا وليبيا ومصر أو إيران. ثم أضاف لاحقا بعد عدة سطور: "ربما هذا صحيح بالنسبة للفلسطينيين - ولكن لحسن الحظ بالنسبة لنا، هم أضعف من أن ينتصروا علينا". والكولونيالية دائما "مسالة حياة أو موت" من وجهة نظر المستعمر (بفتح الميم)، وعوز يعلم ذلك جيدا. حماية إسرائيل من النقد في الخارج ولعب عوز، على الرغم من سمعته أنه ناقد لأفعال الحكومة الإسرائيلية، على الساحة الدولية، دورا هاما في تبرير جرائم الحرب. وكما ذكرت إحدى المراثي، خلال غزو إسرائيل للبنان وسحق انتفاضتين فلسطينيتين "كانت إسرائيل بحاجة لأصوات تخاطب العالم الخارجي وتوفر لها وجها أكثر إنسانوية من وجه آرييل شارون". وقد وظف عوز في الغارديان زاوية "الرأي الحر op-ed" بعد ثلاثة أسابيع من الانتفاضة الثانية، علما أنه مات خلالها 90 فلسطينيا بالرصاص، لمهاجمة "الشعب الفلسطيني" ووصفه أنه "مشبع ومسموم بالكره الأعمى". وفي غضون الاعتداء الإسرائيلي المدمر عام 2014 على قطاع غزة تبنى عوز الأهداف المعلنة لحكومته، وأدلى بها للإعلام الدولي قائلا: "ماذا تفعل إذا جلس جارك في الطرف المقابل من الشارع على الشرفة، وابنه في حضنه وبيده بارودة آلية أطلق منها على حضانة أبنائك؟". ورفض عوز أيضا الجهود المتواضعة للجم إسرائيل: فكتب عام 2010 رسالة يعارض فيها رهان الطلبة اليهود والفلسطينيين على جامعة بيركلي كي تتخلى عن شركتين عسكريتين تزودان الجيش الإسرائيلي بالعتاد. وشكك عوز بالقرار، واعتبره معاديا للسامية. بنود مألوفة في الكلام بالنهاية يؤمن عوز بعدة نقاط تدعم معاداة الفلسطينيين، ويكررها دائما وراء الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة والوطنيين المنتمين للجناح اليميني. فقد أدان عام 1993 في عرض كتاب "أرض إسرائيل" "الحركة الوطنية الفلسطينية… واعتبرها واحدة من أكثر الحركات الوطنية تطرفا وتصلبا في عصرنا الراهن"، وقد تسببت بالبؤس "لأفراد شعبها". في نفس المنشور رفض عوز ادعاءات الفلسطينيين بأن الصهيونية "ظاهرة استعمارية" وبسخرية عفوية كتب يقول: "لم يكن لدى رواد الصهاينة الذين أتوا إلى أرض إسرائيل في منعطف هذا القرن أي شيء ليستعمروه". وفي عام 2013 أعلن عوز أن :" سكان الكيبوتزات لم يرغبوا باغتصاب أرض أحد. واختاروا الإقامة عمدا في الفضاءات الفارغة في هذا البلد، في المتاهات والبراري حيث لا يوجد سكان أبدا". وفي عام 2015 عبر عوز بزاويته "الرأي الحر op-ed" رعبه من فكرة غالبية فلسطينية في دولة ديمقراطية واحدة: "لنبدأ من مسألة حياة وموت. إن لم تتواجد دولتان، ستبقى واحدة. وإن هناك دولة واحدة، سيكون فيها عرب. وإن كانت للعرب، لا ضرورة للكلام بالبديهيات المتعلقة بمصير أبنائنا وأبنائهم". توجد استنتاجات عديدة من "رحلة" عوز السياسية منذ نشأته في عائلة صهاينة إصلاحيين، ولكن رفضه لحل الدولة الواحدة يذكرنا بكلمات الزعيم الإصلاحي فلاديمير جابوتنسكي، القائل إن "اسم المرض هو الأقلية" و"اسم العلاج هو الأغلبية". كولونيالية المستوطن بروفيل عوز السياسي في الغرب يتعدى حياة وأعمال شخص واحد. وهو يمثل رومنسية الكيبوتزات المتفشية، وأوهام واقعية اتفاقيات أوسلو، وعملية السلام المدعومة أمريكيا. وعلاوة على ذلك، ربما، الدعم العميق لكولونيالية المستوطن في فلسطين والحيوية المستمرة للميثولوجيا الصهيونية.

وتذكر مقالة نشرتها النيويورك تايمز عن حياة عوز أن إسرائيل "ولدت من حلم وأشواق"، ووصفت عوز أنه "من عدة وجوه اليهودي الجديد الممثل للمشروع الذي تمنته الصهيونية. وقد غادر القدس في أيام المراهقة وحده. وأقام في كيبوتز كان واحدا من المجتمعات الزراعية الاجتماعية حيث عاش الإسرائيليون اصدق فانتازيا تربوية حتى أصبحت الارض أمرا جوهريا وقلبيا". وكولونيالية المستوطن تعني دائما إعلاء ذاتية المستوطن والإلغاء العنفي للمستعمر (بفتح الميم). ولا تختلف عنها حكاية الحركة الصهيونية في فلسطين. فلسطين ليست مكانا حقيقيا في فترة زمنية، بتاريخها وعاداتها وشعبها وحكاياتها، ولكنها خلفية لتحقيق رؤية المستوطنين عن "الاستصلاح". لم يكن الفلسطينيون شعبا حقيقيا حيا يتنفس، ولكنهم متوحشون نبلاء، وبرابرة، ومتطرفون دينيون.

وكما قال المخرج الإسرائيلي أودي عالوني:"اليسار الإسرائيلي اليهودي… لا ينظر للفلسطينيين كأفراد في صراع، ولكن يرى نفسه فقط".

وفي مراجعة منهكة لكتاب عوز الصادر عام 2017 "عزيزي المتطرف"، قال إفرايم بورغ وهو لسان الكنيست السابق عن عوز إنه "متطرف يؤيد" التقسيم، و"خرب كل شيء في طريقه إلى حل 'الدولتين' الذي انتهت صلاحيته". وبنظر عوز "دولة عربية واحدة شيء غير مقبول".

و"رأيه عن العرب هنا وهناك - أنهم لا يدغدغون مشاعره تماما، وهذا الكتاب الموجز لعاموس عوز لا يقدم حلا على الإطلاق".

بن وايت Ben White كاتب أمريكي متخصص بشؤون الشرق الأوسط.

من أهم مؤلفاته: "العنصرية الإسرائيلية: دليل للمبتدئين"2014، "الفلسطينيون في إسرائيل: العزل والتمييز والديمقراطية" 2011.

الترجمة صالح الرزوق/ عن مديل إيست آي/ 2 كانون الثاني 2019

2024-03-17