السبت 18/10/1445 هـ الموافق 27/04/2024 م الساعه (القدس) (غرينتش)
كتبت امال عبد الكريم إدريس: الاستثمار الثقافي في الفجيرة ... إرادة تصنع المعجزات

على أرض دولة الإمارات العربية المتحدة، مهد انطلاق حلم الإتحاد والتأسيس والبناء لغد أفضل، وفي الفجيرة إمارة الجبل والبحر، هبة الجمال والشموخ، عاش عشاق الفن مؤخرا على وقع مهرجان الفجيرة الدولي للفنون، أياما تخلد في الذاكرة ولا تنسى مهما طال الزمن، فما هي العوامل التي أكسبت هذه التظاهرة طابع العالمية وجمّلتها بحلّة فنية رائعة؟ ما هي الأسس التي بنيت عليها ركائز المهرجان وأهدافه ؟ ومن يقف وراء هذا الصرح الفني الذي يعكس ازدهارا على المستوى الثقافي والاقتصادي والاجتماعي؟ من بنى لمثل هذه النجاحات؟ 

بعد مرور فترة لا يزال تأثير المهرجان آسرا لأغلب من واكب فعالياته، ولا يزال سحر تلك الاحتفالية راسخا في الذاكرة، ولا يمتلك الإعلامي مثلا أن يكبح جماح قلمه الذي يأرن كما تأرن الفرس مطالبا بالتوثيق لهذا الحدث الضخم الذي احتضنته إمارة الفجيرة وهي التي باتت "تفخر بدورها المؤثر في دعم الحراك الثقافي والفني وإيجاد المناخ المناسب للتحاور بين مختلف الثقافات المتنوعة"، وفق ما صرح به الشيخ حمد بن محمد الشرقي، عضو المجلس الأعلى، حاكم الفجيرة.

المصدر نفسه أضاف : "نعتز اليوم في دولة الإمارات بحضورنا الثقافي وقد انتقلنا من مرحلة التميز والريادة إلى دور القائد المتصدر للمشهد الثقافي العالمي".

فمنذ أول مصافحة مع المهرجان وانطلاقا من حفل الافتتاح الذي جاء تحت شعار "الفجيرة تجمعنا"، يقف الزائر مبهورا بالمستوى الراقي لهذا الموعد شكلا ومضمونا، تنظيما ومحتوى...

ففي مسرح الكورنيش الكبير على شاطئ الفجيرة، شكلت أوبريت الفجيرة تجمعنا، إدهاشا بصريا وملحمة تحكي قصة وطن من خلال تقديم بانوراما متكاملة، صاغ رؤيتها المخرج، ماهر صليبي، معتمدا على تقنيات إضاءة عالية الجودة وعلى موسيقى حماسية وقصائد جادت بها قريحة الشيخ الدكتور راشد بن حمد الشرقي، رئيس هيئة الفجيرة للثقافة والإعلام والدكتور محمد عبد الله سعيد، وفيها اختزال لتاريخ الإمارات العربية المتحدة.

 

البداي

ة اتسمت بالوفاء وذلك من خلال العودة إلى تاريخ الإمارات العربية عبر عرض شريط وثائقي لمسيرة طويلة على درب البناء انطلقت مع ما قدمه الشيخ الراحل، زايد بن سلطان آل نهيان في سبيل التأسيس للدولة الحديثة، معتمدا على إرادة قوية كفيلة بصنع المعجزات.

ما رسمه الراحل تحقق، ومن يقفون تحية إكبار وإجلال ويمكسون بدواليب الحكم سائرون على الدرب، يحدوهم الأمل في أن تصبح الإمارات "محط أنظار المبدعين من مفكرين وكتاب وفنانين في العالم بما تحتضنه من مشاريع فنية وثقافية، لترتقي برسالة الثقافة وتشكل حلقة وصل بين الثقافة المحلية وثقافات العالم المختلفة عبر ما تقوم به"، وفق تصريح الشيخ محمد بن حمد الشرقي، ولي عهد الفجيرة.

عرض الافتتاح بتقنياته المميزة، اعتمد على عدد من العناصر الجمالية مثل اللباس الذي ساعد على إيصال الفكرة العامة مع كل مقطع أو فقرة، ففي البداية ارتدت الفرقة اللون الأبيض في إشارة للسلام والصفاء والأمل ... وعندما ارتفعت وتيرة الحماس والإنجازات كان اللون العسكري هو الطاغي.

وفي فقرات أخرى حضرت الأزياء المتناغمة مع الثقافات العالمية التي احتضنتها الأوبريت لنتجح إلى مدى بعيد في تحقيق التكامل بين جماليات العين والغناء والشعر والتواصل.

وشارك كل من الفنانين حسين الجسمي ولطفي بوشناق وأنغام في هذه الأوبريت التي عكست صورة تآلف الوطن والشعب والقيادة، ليختتم الاحتفال بفقرة فرجوية اعتمدت على الشماريخ والألعاب النارية التي أضاءت سماء الفجيرة، لتستقر في الأعلى نجوم ملونة وشلالات من الألوان توحي بالتفاؤل والأمل بشكل تصاعدي وبانهمارات ضوئية سلبت انتباه الحضور.

أوبيريت "الفجيرة تجمعنا" لم تكن سوى نقطة البداية لاستضافة أكثر من 300 فنان مثّلوا فرقا شعبية وموسيقية واستعراضية من 18 دولة عربية و36 دولة أجنبية على غرار الولايات المتحدة الأمريكية والسويد وبوركينا فاسو وأرمينيا وروسيا والصين وصربيا والهند، بمتابعة إعلامية لأكثر من مائة صحفي عربي وأجنبي.

وفي اليوم الثاني للمهرجان استطاع الفنان العالمي، نصير شمة أن يطوّع آلة العود ويعزف لـ "عالم بلا خوف"، مستقطبا حشدا كبيرا من الجمهور الذي استمتع أيضا بـ "رقصة الفرس" بكل ما تحمل معزوفاته من أصالة وتمسك بالجذور وعلاقة وطيدة مع التراث الصوفي مع إدخال نوع من الحداثة التي بدت غير مبتورة عن الماضي.

كم أثثت فقرات اليوم ذاته، كل من فرقة "العبية" للفلكلور الشعبي الأصيل في المملكة العربية السعودية وفقرة "عقد الجلاد" من السودان التي قدمت لوحات من التراث الشعبي الزاخر بالموشحات، فضلا عن فرقة "الدان" من الإمارات التي قدمت نوعا من الفن يمتاز به الساحل الشرقي والمناطق المجاورة له وهو فن "الدان" الذي يعتمد على وجود طبل يسمى "الكاسر" مرفوقا بأشعار تطرح ألغازا مخفية في الشعر نفسه.

فرقة الأخوان شحادة من فلسطين أحيت بدورها سهرة اليوم الثاني من المهرجان وأشعلت الأجواء بإيقاعات موسيقية تناغم معها الجمهور غناء ورقصا.

وشهد يوم الأحد أيضا عرض المسرحية التونسية "سمها ما شئت" وهي عرض تجريبي صميم يتنصل من القوالب الجاهزة ويتحرر من دائرة الضيق ليحقق جمالا حرا فوق فضاء يكاد يكون خال إلا من جسد الفنان.

هذا العرض المونودرامي لأماني بلعج وإخراج وليد دغسني شفع بندوة تطبيقية احتفاء بهذا العمل الذي رأى فيه عديد المشاركين تكاملا بين كل الأركان واحياء لفن المونودراما.

فالناقد المسرحي، يوسف الحمدان قال : "نحن نقف أمام اشتغال بحثي واستقصائي على لغة الجسد، وحوى الكثير من تشظيات هذه اللغة بطريقة غير اعتيادية" مبديا إعجابه بما وصفه بـ "الطاقة السحرية الداخلية للنص وبأن كل قطعة على خشبة المسرح تنتمي لأماني الممثلة ووليد المخرج".

أما الممثل والمخرج محمد غوباشي فاعتبر أن هذه الأمسية هي البداية الحقيقية لمهرجان المونودراما الذي ينتظم ضمن فعاليات مهرجان الفجيرة الدولي للفنون، إذ رأى أن الممثلة تتحرك بشكل ثلاثي وكأنها تحمل في يدها اليمنى مخرج العمل وفي يدها الثانية تقنيات العمل، وفق تقديره.

فيما لفت الكاتب المسرحي، عبد الكريم رشيد إلى أن "الممثلة استطاعت أن تكون أكثر من إمرأة، وبها رأيت مجتمعا، مما يؤكد أننا أما فيض من الحالات التي لا يستطيع أن يصل إليها إلا الصوفيون الذين يعيشون ثقافة الرحيل".

وتواصلت فعاليات المهرجان لتضم تعبيرات ثقافية متنوعة شملت على سبيل الذكر لا الحصر معرض التشكيل والنحت بمشاركة 15 فنانا مثلوا مدارس مختلفة في الرسم والنحت والسيراميك في محاولة بحثية عن جماليات جديدة وبحيرات لونية حضرت فيها التدرجات المتناقضة والألوان الحارة والهادئة والمتمردة.

وعرضت بهذه المناسبة لوحات من زمبابوي وبريطانيا ومعظم الدول العربية، بتقنيات تكشف خصوصيات مبدعيها من الذين مال بعضهم إلى الطبيعة واستخدام  الخشب وأغصان الأشجار فيما اختار البعض الأخر البحث في ما وارء الألوان مستعملين القماش والورق وغيرها من المساحات الحاضنة لفنون الرسم.

ولم تقتصر مشاركة الفنان التونسي والعربي، لطفي بوشناق على حفل الافتتاح، إذ سار على درب الإبداع ليحي سهرة طربية بصوته الشجي وبحماسة فنان متمكن من القيم الجمالية للموسيقى مستقطبا تفاعل الجمهور مع المجموعة المختارة من الطرب الأصيل والموروث الموسيقي التونسي.

لطفي بوشناق الذي استحق لقب "بافاروتي تونس"، وفق رأي العديد من المعجبين بطبقات صوته العالية وعذوبة أغانيه التي تناغم معها الحضور وأدخلت مسحة من الفرح والصفاء، مشكلة لوحة فسيفسائية من الأغاني الوطنية والعاطفية لعل من أبرزها "أنا العربي" للشاعر آدم فتحي و"عجبي منك ومني عجبي بك" و"أيها الساكن في  في الهواء" و"خذوا المناصب" التي جاءت بطلب ملح من الجمهور.

وفي الربع الأخير من ليالي المهرجان، تواصلت العروض الموسيقية التي لم تغب يوما على فعاليات هذه التظاهرة متعددة الفنون، إذ أحيت الفنانة التونسية يسرا محنوش سهرة فنية قدمت فيها نفحات طربية  ومصرية أساسا، دون أداء لأغنية واحدة تونسية مع ما يحمله ذلك من دلالات وأبعاد.

التوليفة التي قدمتها بأداء متميز وبصوت رائع شملت أغنية "يا منيتي" للفنان راشد الماجد و"قاصد" للفنان حسين الجسمي و"يا صاحب السعادة" إلى جانب أغنيتي "الأطلال" و"انت عمري" لكوكب الشرق، أم كلثوم.

وصعد على خشبة المسرح الكبير بعدها، الفنان محمد عساف الذي ألهب كورنيش الفجيرة بأغنياته الحماسية وبحضوره اللافت وصوته وأدائه المميزين.

وأشعلت أغاني الدبكة المسرح ليتفاعل معها الجمهور الذي فاق عدده الأربعة آلاف شخص تغنوا ورقصوا على نغمات عساف الذي اختتم أمسيته بإعادة أغنية الكوفية بطلب ملح من الجمهور.

عوالم فنية ساحرة امتدت لتصل إلى عنان السماء حاملة الجماهير المواكبة لمختلف فعاليات مهرجان الفجيرة للفنون في رحلة مع المواويل والطرب والرقص والحنين إلى مختلف التعبيرات الثقافية الأصيلة والمعاصرة.

هي رسالة محبة بعثت بها دولة الإمارات العربية المتحدة من خلال مهرجان الفجيرة الدولي للفنون لكل من يؤمن بالسلام والأمل والبناء لغد أفضل تعيش فيه الأجيال القادمة بقيم التسامح والقبول بثقافة الآخر والتعايش السلمي.

من الفجيرة حيث الدفء الساحر والشواطئ الخلابة والجبال الشامخة، جاءت هذه الرسالة الإنسانية، لتدل على معاني الحب والتآلف ولتروي ضمنيا قصص الحضارة والأصالة.

فالفجيرة حباها الله بطبيعة خلابة وبموقع استراتيجي متميز خارج مضيق هرمز، جعل منها بوابة شرقية لدولة الإمارات العربية المتحدة تربط بين أسواق ودول الخليج العربية وشبه القارة الهندية والشرق الأوسط وأوروبا.

وساهم في تحقيق النهضة الإقتصادية والإجتماعية السياسات التي وضعتها قيادات البلاد لجذب الاستثمارات الخارجية وإقامة شراكات إقتصادية وتجارية مع العديد من المؤسسات الاستثمارية العالمية مما حول إمارة الفجيرة إلى أحد المراكز الاقتصادية الهامة في منطقة الخليج.

هو "حلم زايد" الذي تحقق كما جاء في قصيدة كتبها الدكتور راشد بن حمد الشرقي، ولي عهد الفجيرة، قائلا : " ألهمتنا الليالي بفكرنا والخيال، وقادنا حلم زايد فوق هام السحاب.. ارتسم كل مجد واعتلى في المجال، وعزم روح الأماني فاق ضوء الشهاب.. نهجنا نهج واضح ما تبعنا الضّلال، ما سلكنا الدروب الشائكة والسراب.. شوف وقع الإجابة قبل طرح السؤال، واقع الحال يكشف ما وراء الحجاب..".

هو الحلم المرفق بالإرادة والعمل، الذي يصنع المعجزات ويجعل الفجيرة حضنا حميما يمدّنا إبداعا وجمالا ويجمع فرقتنا ويلم شملنا على امتداد عشرة أيام مرت كحلم جميل نأمل أن يتجدد، لأنها بسحر حصونها وقلاعها وبنخيلها المتمايل وبشواطئها الحالمة وبعظمة المكان الذي ينسج خيوط التألق والرقي لا نمتلك إلا أن نعشقها وتعشقنا .

2018-04-11