الأحد 4/11/1445 هـ الموافق 12/05/2024 م الساعه (القدس) (غرينتش)
لهفة الفقد ...اسراء عبوشي

  قد تُؤَخِر البكاء لأعوام , وتحبس أنات مكتومة , وقد يظهر بصور مناقضة , فأن سمعت ضحكاتها المدوية فلا تصدقها .حضنته  نظرت اليه النظرة الأخيرة قبلته ومضت , قالت جملة واحدة : إبني حقق امنيته .

تتباين الأمنيات انها فكرة للحياة , فهناك من يتمنى _ منذ الصغر _ أن يصبح طبيباً , وآخر يتمنى ان يصبح مهندساً , وآخر… وآخر …. إلا ضياء تمنى أن يستشهد , وحقق أمنيته , فهل حقاً الأمر بتلك البساطة ؟! .
شريط حياة أم ضياء مر مسرعاً أمامها , وصور الأمس الأليمة اصطفت لتكمل الحكاية , التي انهت حياة وبدأت حياة آخرى , بالأمس كانت ترى بعيون المارة كلمات تكوي أعماقها , وتصبر وتدعو  الله ان يهبها ما يصمت نظراتهم , يعاتبوها على عدم انجابها وكأنها اختارت حرمانها , المجتمع لا يرى إلا الجزء الناقص من الكوب , وإن سلمّت ورفضت لا تسلّم نظرات تشعرها بنقصها , انهم يتفنون بإظهار عيوب غيرهم برغم عيوبهم , يتهموا ام ضياء وهي براء من تصريف الاقدار .
ولكن مع الأيام وتوالي طرقاتهم على أبواب حرمانها , ضجرت أصواتهم وفتحت الباب فلجأت الى شتى أساليب العلاج , لم تستثني منفذ للنجاة حتى الدجل والسحر , كالغريق يتعلق بقشة , بلا جدوى .. الحل الوحيد هو التلقيح الصناعي , رغم انه مكلف جداً لكنها مشت بطريق لا عودة منه , فباعت ذهبها واستدانت , نطفة تلتصق بجدار الرحم تكون حياة هي كل الأماني .
صغيرة هي الأحلام حين تولد , ثم تحتاج لكثير من الصبر لترى النور وكثير من الدعاء , ترتفع الأيدي ب يا رب كجنحان طائر يحلّق عالياً , فالأماني التي نرتجيها من الرحمن تحليّق للروح في فضاء السعادة للحظات .
فها هي الروح تتحرك داخل الروح وتنمو , كغصن بان تمرجحه الريح , يسبح بالرحمات , التي تعده ليكون .
ثم يكتمل بالميلاد الاعجاز , فمن ظلمة الرحم يتهيأ بلحظة للحياة , وتدب بصدره الأنفاس , اسعفها القدر بتحقيق آخر رجاء , كبر وكبرت فيه الأحلام ,يتحرك فتتحرك القلوب , في طوايا إشارته العفوية وملاعبته الطفولية قمة ما تصبوا الية الأم من سعادة , كانت تتمنى أن لا يدوس على الأرض , بل أن ترفعه لتحميه من خطواته , فلا يتعثر لكنها الحياة , ولا يمنع الحذر القدر .
الى أن رأته شاباً كالبدر يزهو وسط أقرانه , إنه حقاً ضياء أنار حياتها وحياة كل من عرفه , كان له أثر في نفوس كل منّ عرفه , يفرض اعجاب كل منّ هم حولة , بشخصيته وبقوته وبصلابة إرادته , كان شامخاً كالجبال , وحين يلف وجهه بالكوفيه ويخرج ترتعد من نظرة عيونه الكواسر , كأسد يحمي مملكته , والوقوف بوجه آلة الحرب الفتاكة يحتاج لتلك الجرأة , مواجهات الفائز بها من يكسر قوة الآخر , إرادة وتحدي وإيمان مقابل سلاح بيد جندي مرتزق عابر من ذات مكان , كان يشعل النار من تحت أقدامهم فيجروا كالفئران , في كل ليلة يعود للبيت تحضنه بشغف أعمى فجأة رأى النور , تتفقده لعل الحرب خدشته بندبة آلمته واخفاها خوفاً عليها : فلا تقلقي ياا أماه .
الآن تسلمه للفقد فلم يكن الا بسمة على وجه الزمان العابس تتلاشى ليعود العبوس يحتل الملامح.
فكيف ستنير أثر البسمة او كيف ستحيا وقد استنفذت اسباب السعادة , شيء واحد يدعوها للحياة .. الإيمان ,فالإيمان شمس تشرق لتنير الحياة أرجل ثابتة على الأرض وروح مرتفعة للأعالي , مرتفعة للسماء ..
إيمان بالأقدار وبخفايا رحمات الأقدار, وإيمان بهذه الأرض التي لأجلها تهون الأعمار , اليقين أن تسلم بالمحنة وأنت تجهل الحكمة فقط تدركها بموجز الأمور .
إيمان بحقنا بأرض يدنسها محتل وتحتاج لكثير من الدماء الطاهرة لتغسلها , عليهم أن يعلموا انه ولو طال عليهم الأمد هم أغراب على الأرض ونحن الأسياد , فحين يفتت استشهادي جسده اشلاء يعلمهم درساً قاسياً بأنهم لن يمروا على ارضنا بسلام , وستتناثر أشلائهم العفنة لتكون الأرض التي يدوسونها مقبرتهم .
وعندما كانت تحتاجه كأبن , وتغلب عليها مشاعر الأمومة تناديه : وحيدي لقد اسقطت عنك فريضة الجهاد .
فيجيب : إن تخلفنا عن الجهاد , وتسترنا خلف أعذارنا , أنا و.. هو .. فمنّ لهذه الأرض !
فتعود لتهمس له : إني لا أقوى على الحياة بدونك , فكم تعبت لتكون .
فيجيب : أذهب ويبقى الله سبحانه , وقد تكتمل حكاية صبرك بستشهادي لأكون آخر المطاف , لم يكن الله سبحانه ليكتب لكي حياة عادية ولا لي فحياتي المجد , السكون في روتين الأيام لم يقدّر لنا , والبيت الهاديء الوديع لم يضمنا .
حياة مشرّعة على التضحيات , هي ما كتب لنا فنحن بفلسطين بلد الرباط , وثاقنا مشدود لنقاوم , لنعيش النكبات ونصبر , لنتحمل قلة الرزق وصعوبة التنقل , ونخلع عنا وداعة الاحلام ونمضي , كل أحلامنا وآمالنا مشدودة الوثاق نحو الأرض ومربوطه بها .
آتى الليل وكأن ظلامه يلتهم كل الأماكن التي كان ينيرها ضياء , رحل ضياء ورحل مع روحه روح المكان , فصمتت الجدران وضاقت على سكانها الأزقة التي عشقت خطاه وتعلقت ببمشاه , فجلس الاب والام في ركن خيم عليه الحزن.
طرق الباب عم الشهيد ( أبو حسن) فتح الباب ( ابو ضياء) فأمسك يده مواسياً , كانت لمسه المواساة هذه كفيلة بتدفع ما جاش بالصدر من أحزان فقال : كنت أتمنى أن أزوجه وأحمل أحفاده .
أبو حسن : هي أماني دنيوية .
أبو ضياء : لم يعد لي من دنياي حاجة , فما حاجتي لشمس الغد وقد جف النور وتباعد الأمل وغطى الطريق أوحال الفقد الأليم , ما حاجتي لحياة ليس فيها ضياء.
أبو حسن : ابنك أراق دمه ليطهر الأرض من أنجاسهم , دمه اعلن لهم : لن تمروا
كانت أمانيه عظيمة , وطرقه طريق المجد .
وستبقى هذه الأرض تقدم الشهداء , وكأن من رحلوا يُطلوا على الأبطال ويناشدوهم لكي لا يفرطوا بدمهم , ويحملونهم وصاياهم أمانات في أعناقهم جيل بعد جيل , فهل تقبل أن يصم إبنك أذنيه عن ندائهم ويخذلهم ؟ , ويكلف بصره وهو يرى أرضه تغتصب , ومسرى رسوله ( صل الله عليه وسلم ) يدنس ؟ , وكما ذهبوا ذهب وكما ثأر لهم سيجد من يثأر له , لتستمر سلسلة التضحيات وتكتمل حلقات الثأر , فتشكل قلادة بأسماء الأبطال يزهوا بها الوطن ويرفع عنقه عالياً بهم .
ابو ضياء: إبني استجاب ومشى على خطى الأبطال , لكني للحظات أشرد لأفكر بمن يقبض الثمن , منّ يتاجر بدماء الشهداء .
أبو حسن : سيكون دمه ايضاً حجة عليهم , سيهنأ الشهيد بالفردوس وسيغرقون بالأوحال , إنها النوايا يا أبا ضياء .
يغلق الباب حيث لا يأتي الطارق المنتظر , يغلق على قلوب مكلومة توجه الحياة ببسمة تخفي دمعة , وتعود الحياة وكأنها تبتدأ من جديد , يجب خرس نظرات الشفقة بالكبرياء , وما أصعب الكرة …


الكاتبة : اسراء عبوشي

 

الصورة للرسام الفلسطيني عماد ابو اشتية

2015-11-22