الإثنين 20/10/1445 هـ الموافق 29/04/2024 م الساعه (القدس) (غرينتش)
إطلالة على مشهد غزة الثقافي /جبر شعث

تبدو غزة جغرافياً وعلى الخارطة وواقعياً، لساناً ممدوداً تسخر من حيزها القريب وتغيظ ذلك العالم البعيد الذي ما زال متشبثاً بوهمه ؛ بأنها رقعة جغرافية وتكديس سكاني فائضان عن الحاجة . بينما هي تتشبث بحقها في الحياة وبيقينها ، بأنها قادرة على إضافة الإنساني والجمالي ( رغم واقعها المحكوم بعبثية سيزيف وسوداوية كافكا ) إلى ذلك العالم الغائب أو المغيب ، الفارغ أو المفرّغ من قيمه الإنسانية ومن بدهيات الجمالي فيه . تمد غزة لسانها بينما روحها ويداها في شغل آخر ، تجترح شروط وجودها الاستثنائية في جو ملبد بالمفارقات والمتناقضات ؛ بالإبداع في الميادين كافة ، بما فيها ميدان مقاومة كل مَنْ يحاول أن يسرق غرفة من بحرها ، أو شهقة من هوائها ، أو قبضة من ترابها ، أو غيمة من سمائها . بالإبداع تهزم كل من يحاول أن يُشيّيُ أو يُسلِّع إنسانها ، وبه تكسر قضبان الحصار ، منطلقةً ، تنشر ترانيمها وأغنياتها
وتسيِّل ألوانها ، لترسم أجمل وأبهى لوحاتها . فلا يكاد يمر يوم  من دون أن تحليه بإبداعاتها ذات الطابع الإنساني / الجمالي في المسرح والسينما والفن السردي والشعر والنقد والفن التشكيلي، مواكبة ( ولن أكون متزيداً ) إن قلت متقدمةً، في كل ذلك على تجارب الآخرين في محيطها المحلي والعربي . وقد استغرب ذات يوم شاعر عربي معروف ، حد الاندهاش، من هذه الحالة الغزية المتقدمة ، سيما في مجال الشعر . وقد أبدى لي شخصياً الشاعر العربي العراقي الكبير سعدي يوسف  إعجابه بهذه التجربة ، حين التقيته في الجزائر على هامش معرض الكتاب الدولي أكتوبر 2012 وذكرني بالتجربة الإبداعية الفرنسية ، أثناء الإحتلال النازي وبالشاعر لويس أراغون الذي كانت أشعاره تُلقى على الفرنسيين كمنشورات ؛ تحريضاً لهم على مقاومة المحتل.
فبرغم ما تعانيه من حصار مازال مستمراً منذ نحو ثماني سنوات ، ومن أزمات تتكاثر ثنائياً كالفيروسات ، يظل مشهدها الثقافي المتنوع الثري ، حياً وسط الموات شبه اليومي ؛ كأنها تعلن للعالم أجمع  أنها تتنفس من رئة إبداعها ، و به تستحق الحياة .
مشهدية ثقافية لا دخل للمؤسسة الرسمية بها ، ولا للجمعيات الأهلية في معظمها؛ فلطالما كانت هذه وتلك مثل ( الماء على الرئتين ) تُصَعب التنفس ، وتشل الحركة وتشي بالموت القريب . إنما هي ثمرة لجهد ذاتي وجماعي للمبدعين والمثقفين ولقلة من الأكاديميين الذين نجوا من موات المدرجات ومن فكي الإلقاء والتلقين ، تنادوا جميعاً وشكلوا أجساماً ثقافية تُعنى بالهم الثقافي وبأسئلة الإبداع . ولست معنياً هنا بالإحصاء ، ولكني من باب الشكر والتقدير أذكر ، مركز غزة للثقافة والفنون ويوتوبيا ، ومسرح علي أبو ياسين وسينما خليل المزين وفائق جرادة ومجلة 28 ،وصالون نون الذي يُعني بالأدب النسوي ، ومؤسسة عبد المحسن القطان التي تنظم سنوياً مسابقات في مجال الشعر والفن السردي للشباب المبدعين وتقوم بطباعة الأعمال الفائزة  وجمعية غزة للمرأة المبدعة  . هذا فضلاً عن المعارض التشكيلية التي تقام بين حين وآخر في قاعات الجمعيات والمراكز الثقافية . وحتى لا أُتهم بالتجاهل والتناسي ؛ فلا بد من ذكر بيتنا الكبير ( اتحاد الكتاب والأدباء الفلسطينيين ) ، الذي ينظم في مقره بعض الأنشطة الثقافية ، ويشارك في بعضها الآخر من باب التبني المعنوي ، التي تلتزم به أخلاقياً تلك التجمعات الثقافية التي ذكرت .

غزة 30 آذار 2014 م

2014-04-01