الجمعة 17/10/1445 هـ الموافق 26/04/2024 م الساعه (القدس) (غرينتش)
صعود مرسي والإخوان بمصر: محاولة حسم الموقف ضد سوريا وتحويل عقيدة الجيش المصري/ د. سلمان محمد سلمان

ا أميل في العادة للأوصاف الشاملة كاملة الثقة وأميل أكثر للتحليل الموضوعي الذي يحتسب الاحتمالات المختلفة. لكن في هذه تبدو الأمور أكثر من واضحة. ولا بد من الاعتراف أن الدور الصهيوني في معادلة الحكم الأميركي أقوى بكثير مما اعتقدت في أسوا الاحتمالات.

 

في مقالات كثيرة سابقة هناك تحليل لمن يرغب المتابعة ونتيجة ذلك في آخر مقالة "إلى شعب مصر الطيب" أن صراعا يتم بين العسكر والإخوان مع امكانية انتصار الجيش بتقييد مرسي بالإعلان الدستوري المكمل والذي يمنح العسكر فيتو تشريعي وحل مجلس الشعب  قبل قيام الانتخابات بقترة قصيرة.

 

وقد تبين أنني كنت متفائلا بسيطرة الجيش وقيادته. فخلال سويعات قليلة تبعت عملية سيناء في العشر الأواخر من رمضان  استطاع مرسي "الضعيف والمقيد" سحق كل قيادة الجيش وتطويع الإعلام وإسكات الفلول وتهميش القوميين وكأن سحرا كبيرا تم لكل الشعب المصري واختفت كل المعارضات. وكان مذهلا وغير واقعي حصول هذه السيطرة السريعة دون عوامل استراتيجية. ولفترة وجيزة ظهر أن مرسي سوف يسحق الإرهابيين في سيناء ولن يرضخ لإسرائيل بسحب قواته. وظهرت إسرائيل كمن يشكو لأميركا من عربدة مرسي وتترجاها إقناع فارس الشرق الجديد بضرورة فتح قناة اتصال تطمئن نفوس بني إسرائيل القلقين من قعقعة السلاح في أكناف الحدود الجنوبية.

 

ورغم هالة العظمة التي طبل لها كثيرون ومنهم السيد عبد الباري عطوان رئيس تحرير القدس العربي  والكاتب الذي لا أستطيع الاتفاق مع تحليلاته الغوغائية التي تخلط الحابل بالنابل في أحسن أحوالها إلا أنني لا استطع تصديق الصورة المراد رسمها والهالة العظيمة للرجل المعجزة. ومما سهل الصيد بالمياه العكرة موقف مرجعية المقاومين الولي الفقيه عندما ربت على ظهر المعجزة وصور لنا نصره  بالصحوة الإسلامية. وبذلك تكاتفت  قوى الجميع في وصفه وكان الله يأخذ بيده فعلا.

 

لكن ومضات متفرقة ودخانا أسود يظهر الأمر غير ذلك:

 

لم يطل الأمر كثيرا واستغرقت العملية أياما فقط لتظهر سذاجة التحليل الإيراني. وان لم تكن سذاجة بل دهاء يقصد به تحويل مسار الثورة المصرية الذي يرسمه الغرب إلى مسار يخدم الشعب المصري والسياسة المناهضة للغرب من خلال ترسيخ شعار الصحوة الإسلامية  رغم معرفة إيران بمدي التغلغل الأميركي  فقد أفشل مرسي ذلك الدهاء وأثبت عدم جدواه. وبدا أن توجهات إيران الكبيرة نحو نجوم الربيع العربي ( مصر وليبيا واليمن)  لم تمثل أكثر من قفزات في الهواء رغم وضوح أهداف إيران الاستراتيجية وتناقضها الحقيقي مع كل ما له علاقة بالربيع العربي الأجرب.

 

ظهرت حكمة صعود مرسي عند افتتاح قمة دول عدم الانحياز. وترسخ الدور المطلوب من مصر بعد الغزل السابق من السعودية لإيران في قمة التعاون الإسلامي قبل أيام والتي لم تكسب فيها غيران شيئا سوى تجميد عضوية سوريا وظهورها كالمخدوعة ولم ينفع التكريم الخاص بأحمدي نجاد.

 

اعتقدت إيران أنها تحرك الجمود من خلال مبادرة مبتورة تقدم بها مرسي في نهاية القمة الإسلامية لتكوين لجنة اتصال بخصوص سوريا من تركيا والسعودية وإيران ومصر. ومجدت إيران المبادرة وحاولت تحميلها ما لا تحتمل. ربما اعتقدت إيران أنها ستحيد السعودية وتركيا من خلال وسيط صديق تتمنى تحققه في مرسي.

 

في قمة عدم الانحياز راهنت إيران مرة أخرى على طيبة مرسي وبهتت بازدواجيته. فهو يسب سوريا ويصف نظامها بالظالم ويدعم الشعب السوري في نضاله للتحرر أسوة بنضال الشعب الفلسطيني للتحرر من إسرائيل وهو يسحب الشرعية عن النظام في سوريا ويشترط تنحي الرئيس الأسد لتحقيق السلام الذي يدعو إليه بديلا عن التدخل الأجنبي الذي يقول برفضه. وبهذا فقد انسجم موقفه  مع الجامعة العربية بل كان أكثر وضوحا وانطبق مع مواقف فرنسا وبريطانيا وتفوق على الموقف الأميركي. فكل هذه القوى لم تطلب يوما أكثر من تنحي الأسد.

 

ظهرت الحقيقة الباردة صدمة لنجاد وخامنئي في عقر دارهم. لم يحترم مرسي متطلبات دوره رئيسا سابقا لعدم الانحياز وعبر عن موقف الإخوان وليس مصر قي انحيازه للرؤية الأميركية والجامعة العربية بتحويل التنحي شرطا مسبقا. وبهذا فقد تفوق على صديقه المرزوقي الذي اكتفى بنموذج اليمن ولم يحلم بتجنيد إيران في هذا الطلب.

 

قبل قمة عدم الانحياز زار مرسي الصين وظهر مبادرا مستقلا عن أميركا في اختياره زيارة عرين المعارضة الاستراتيجية للغرب. ولكن تبين الهدف والرخصة سريعا فقد كان ذلك تمهيدا للقنبلة التي فجرها بقمة عدم الانحياز. وتصادف ذلك مع  حضور بان كي مون رغم المعارضة الغربية بل حضرت حتى قطر ومن شابهها. وكما يبدو كان هدف زيارة الصين إقناعها بالتخلي عن سوريا وتمرير تبني مؤتمر عدم الانحياز ما تبنت الجمعية العامة اخذين بالاعتبار أن كثيرا ممن حضروا قمة طهران صوتوا ضد سوريا بالجمعية العامة. وربما طمح مرسي إلى  إقناع إيران فعلا بالتخلي عن سوريا وإن لم يكن ذلك ممكنا  ليخلق عندها ارتباكا.

 

فالمعروض  على إيران منذ القمة الإسلامية صداقة خليجية زائفة وعلاقة ممتازة مع الشقيقة مصر (كما وصف مرسي إيران رغم أنه لا يقيم علاقات معها) وربما وعد يرفع العقوبات الدولية وتسوية الملف النووي مقابل التخلي عن الأسد شخصيا. وهذه العروض الفضيحة ليست غريبة عن وقاحة الغرب. فهم يعرضون الكذب بغطاء خفيف فإن قبل الطرف الآخر يكسبون الهدف المؤقت ومن ثم يقلبون ظهر المجن وإن رفض فليس هناك جديد. ألم يتم تدجين تركيا بعروض أقل تكلفة. ألم تدجن مصر بأقل من ذلك بكثير. أليس كل العرب مدجنون بالعصا دون جزرة. يعتقد الغرب أن عرض الجزرة لإيران يعتبر كرما كبيرا عليها التفكير به جديا دون أي ضمانات.

 

طبعا لا  أتوقع أن تبلع إيران الطعم فهي نفسها بالنار وهم يعرفون قيمة سوريا وانعكاس ذلك على لبنان ويعرفون أن إسقاط سوريا يساوي إسقاط إيران ومن غير المعقول تخلي إيران عن نفسها. لكن صدمة مرسي ربما توقظها من الوهم.

 

أتمنى من كل قلبي أن أكون مخطئا. لكن يبدو أن تسريع الحسم لصالح مرسي والإخوان بمصر يقصد به إطلاق يده للعمل بالطاقة القصوى لخدمة هدف حصار أكثر على سوريا. فالأوراق المتوفرة بيد الغرب ضد سوريا تكاد تنعدم ومحاولة استخدام ورقة الإخوان المصرية حتى النهاية يستحق الجهد خاصة إذا تزامن مع استعداد إخواني لتغيير عقيدة الجيش المصري. 

 

فبعد فشل الحل العسكري وخطة الصفر لإسقاط سوريا لم يبق شيء إلا الرهان على دور مصري لتفكيك العلاقة بين سوريا وإيران. وعرض صداقة مصر والسعودية وتركيا مقابل تنحي الأسد ربما يقبضه بعض الإيرانيين وخاصة من يؤمنون بحتمية سقوط حاكم سوريا حسب نبوءات مقدمات ظهور المهدي.

 

لكن أيا من كل هذا لن يحصل لحسن الحظ. فصمود سوريا لا يعتمد على دعم إيران بأكثر من20% وقد ذكر أحد قياديي مجلس استنبول (لا أذكر اسمه) ما يشبه هذا عندما قال أن دعم إيران لسوريا لا يزيد ولا ينقص المعادلة شيئا. وأن العامل الجوهري هو روسيا والصين. وكأنه كان يناقش طرفا غائبا لافتا أن محاولة تجنيد أو تحييد إيران ضد سوريا لن تنجح أصلا وإن نجحت فلن تثمر. وكان في حديثه يستعجل التدخل الغربي العسكري والمناطق الآمنة بدلا من اللعب على احتمالات  ضعيفة وخاصة أن قوات المعارضة تفقد الأرض والقوة الضاربة سريعا بسبب بدء عمليات الجيش السوري الساحقة منذ حوالي الشهر.

 

فشل الموقف ضد سوريا سببه الأساس قوة تسليح الجيش العربي السوري وعقيدته القتالية المميزة يضاف لذلك طبعا الدعم الاستراتيجي الروسي والصيني وحلفائهم وقيمة إيران الأساس جيرتها وتأثيرها المعنوي. فتخلي إيران سوف يخسر سوريا لكن إيران لن تكسب شيئا ولهذا فتخلي إيران عن سوريا غير ممكن وتحليل عضو مجلس استانبول واقعي.

 

سيفشل مرسي في مهمته السورية. بالنسبة للإخوان فهذا تكليف يقبلونه مقابل السيطرة على الجيش المصري. وقد حقق الإخوان هدف تحييد الجيش المصري فهل سيقدرون على تغيير عقيدته القتالية.

 

من المفارقات المفهومة غربيا أن ذلك يعتمد كثيرا على نهاية الموقف في سوريا. فطالما بقيت سوريا صامدة لن يتغير الكثير في مصر وستبقى نار الخط القومي متقدة تحت الرماد الظاهر بل ربما تعود ليبيا وتونس للاشتعال مرة أخرى. بالنسبة للغرب فبقاء مرسي مرهون بنجاحه في مهمة سوريا وهو سيبذل كل طاقته وخلفه كل الإسلاميين والعربان لتحقيق هذا الهدف الصعب وبذلك يرهن مرسي نفسه لمهمة لن يستطيع تحقيقها.

 

والسؤال الذي يثار مقابل هذا التحليل  لماذا إساءة الظن بمرسي والإخوان لهذا الحد ورفض مقولة حسن نية من يدعو لتنحي الأسد مقابل حل سلمي. إلا يستحق السوريون وحفظ دمائهم تنازل الرئيس عن منصبه وهل يستحق المنصب كل هذا التمسك.  الحقيقة أن مثل هذا الطرح والتساؤل الذي يبدو بريئا هو الأكثر جهلا حين يصدر من ذوي النوايا الحسنة والأخطر على الإطلاق لمن يدرك حقائق الأمور. فهو سم زعاف لسوريا الأمة والدور ونهاية مسيرة الاستقلال لأي شعب يحترم نفسه.

 

الأسباب كثيرة

حتى لو تحقق الهدوء بعد تنحي الرئيس وهذا مستبعد لأسباب كثيرة تتعلق بتوازن القوى وموقع سوريا فسيمثل ذلك رسالة قوية واضحة ومثبتة لكل القوى ومن يفكر بالحكم بعده.  رسالة قبلها الإخوان في ثورات الربيع السابقة والرسالة "أن الغرب لن يهدأ وسيشعل العنف والخراب في أي بلد يرفض التغيير حسب معطياته مهما طال الزمن وستتم محاصرة البلد والنظام ما لم ينحني لعاصفته ويقبل تنحي المطلوب رأسه مقابل الحفاظ على البلد". في حالة سوريا ومن قبلها ليبيا واليمن تم استخدام هذا المنطق كأساس لتبرير ضرورة التنحي. وهذا في الحقيقة يساوي استسلام الإرادة ولا يحمل من صفات الثورة شيئا.

إنه منطق المهزوم. فإذا تنازل الحاكم بسبب الخوف من عقاب من لا حق له ومن ابتزاز الغرب وعدوانيته فما الذي سيمنع الغرب من ممارسة نفس الدور مع كل من يأتي بعده ومن الذي على رأسه ريشة  ليتحدى إرادة الغرب العاتية. ستصبح أحد قواعد الحكم  والعقيدة السياسية حينئذ  "ضرورة رضا الغرب وقبوله لحفظ البلد واستمراره وهذا يساوي الارتهان".

في حالتي مصر تونس كان كافيا توجيه البلاغ للحاكم. وتغيرت النظم  دون تغيير السياسية الخارجية أو الاقتصادية بل ربما تم التحول للأسوأ. وعندما قاوم على عبد الله صالح مثبتا تمثيله قطاعا كبيرا من الشعب لم يكن يملك موقفا قويا على المستوى الدولي والتغيير الذي حصل لم يمثل إسقاطا للنظام فعلا. في حالة ليبيا سحق الرجل لأنه قاوم رغم قبوله مبدأ الانتخابات الحرة وكانت نقطة ضعفه إجماع الإرادة الدولية ضده وصدور قرار أممي.

حالة سوريا تختلف. فبعد حرب طالت وبموقف دولي صلب ضد التدخل في شئون سوريا (موقف روسيا والصين ودول أخرى وقوة سوريا الضاربة) فان التنازل يعني استلاما مزدوجا وبثمن بخس وهو تحريك عصابات تثير الفتن ولا تستطيع الحسم العسكري أو تهديد أركان النظام.

الموقف الدولي تجاه سوريا أكثر تحديا من الحرب على العراق عام 2003. ففي ذلك الوقت توفرت إرادة رفض التدخل من قبل روسيا وفرنسا والصين لكنها لم تكن صلبة لمنع هجوم عسكري ولم يملك العراق شبكة أصدقاء محيطه.  من الصعب إقناع الناس أن رفض صدام التسليم مسبقا يمثل الموقف الحقيقي لمن يريد الحفاظ على الاستقلال. لكننا نعرف أن سقوط النظام عسكريا لم يوقف مخطط التدمير ويستمر القتل في العراق حتى الآن. مهما كلف الأمر تبقى المقاومة أقل خسائر من استسلام يبدو سهلا لكنه ينتج دمارا أكبر في إرادة الوطن وكيانه المادي معا. ولن أعتبر كثيرا من مواقف بعض الدول الهزيلة التي تقبل العيش تحت الأقدام مقابل البقاء.

حالة سوريا أصعب لأن النظام قوي والتدخل الدولي ملجوم وسقوط النظام يعني الاستسلام السهل لإرادة العدو. من الأفضل للنظام خسارة المعركة على الاستسلام. وإذا كانت إرادة الثوار وعددهم أكثر من مؤيدي النظام فلن يحتاج الشعب لأحد وسيسيطر أخيرا وهذا ما يدعونه كل يوم.  فهم يقولون بسيطرتهم على 70% من الأرض وما داموا كذلك فلماذا العويل الدائم وطلب النصرة من شذاذ الآفاق ولماذا لا يقيم زعماؤهم في الأرض المحررة. الحقيقة أنهم لا يملكون ثقلا على الأرض وأقصى ما يستطيعون إثارة الفوضى والخراب  لدفع الشعب إلى الاستسلام والتخلي عن إرادته الحرة.

هذا هو معني المقاومة ورأس سنامها. فإن قبلت رهن عقلك وإرادتك للعدو فلن تحمي نفسك التي تخاف عليها وإن رفضت تسليم رأسك مهما كلف الأمر فكل ما يحصل يظل أقل خسارة لمستقبل بلدك. وإن كان النظام جائرا فعليك تغييره بيديك فقط ودفع الثمن كاملا فهكذا تغنم الأمم حرياتها.

 

لذلك وبغض النظر عن تحقق الهدوء أو عدمه لو تنحى الرئيس فلن تكون سوريا الإرادة الحرة بل لن تتوفر لسوريا فرص المقاومة التي توفرت للعراق وسمحت بعد خراب البصرة ودمار الوطن لفرصة استقلال آخر منقوص وغير مؤكد. ولولا وجود الجار السوري المقاوم لما أمكن للعراق تحقيق ذلك.

 

نتمنى لسوريا الصبر والصمود ولن تكون النهاية بعيدة. ستسقط الأصنام سريعا فطوبي لمن صبر.

2012-09-03