أبدا لم تعش الديمقراطية في الحال العربي ولم تحصل على فرصتها بالوجود وحتى اولئك الذين جاءت بهم صناديق الاقتراع انقلبوا عليها فبعد تجربة سوار الذهب الذي حاول ان يضرب مثلا يحتذى بان اشرف على اجراء انتخابات ولم يشارك بها كانت اخر انتخابات تنافسية وظل الحكم في السودان بعده بيد طغمة حاكمة والامر فيما عدا الانتخابات الهزلية في لبنان والقائمة على التقاسم الديني الطائفي لا يوجد انتخابات ولا تداول حقيقي للسلطة في كل ارجاء الوطن العربي وتجربة الاخوان في الجزائر وانقلابهم على الديمقراطية وفي مصر وعدم منحهم فرصة المواصلة وكذا في فلسطين وفيما عدا تجربة الثورة في تونس فان أيا من التجارب الاخرى لم تتمكن من النجاح ولعل ذلك ينبغي له ان يكون درسا حقيقيا لمعرفة تاثير بناء دولة مدنية ديمقراطية وترسيخها وتجذيرها وهو ما اقدم على فعله الحبيب بورقيبة قائد الثورة التونسية ضد الاستعمار ورئيس البلاد والذي حكم تونس بعد استقلالها لثلاثة عقود متواصلة مع انه مارس الحكم الديكتاتوري الاستبدادي بشكل او بآخر وعدل الدستور سنة في 27ديسمبر 1974م لتسند اليه رئاسة تونس مدى الحياة الا انه ظل متمسكا بأبعاد ابنه الوحيد عن الحكم والسياسة طيلة حياته ولم يفكر ابدا بالتوريث مع انه كان نظاما بوليسيا قمعيا في كل مناحي الحياة وكثيرا ما اطلقت النار على المتظاهرين في ثورة الخبز وجرت الاعدامات لكل من اتهم بقلب نظام الحكم الا انه ارسى قواعد احترام الدستور والدولة المدنية بعيدا عن شخصه مع احتفاظه بالسلطة المطلقة لشخصه حتى خروجه من الحكم بشكل سلمي على يد زين العابدين بن علي الذي قرر التجربة الاستبدادية ولكن بفساد منقطع النظير فبعد ديكتاتور وطني غير فاسد ولم يعرف الفساد وحامي للدستور المدني العصري الذي يشهد له كل العالم جيء بديكتاتور فاسد هو واسرته وبطانته.
ما الذي فعله الحبيب بورقيبة طوال فترة حكمه وما هي الانجازات التي حمت تونس من الانزلاق الى الهاوية ومنعت الشعب من التهاون مع منجزاته ولم يتمكن احد من القفز عليها بما في ذلك الاخوان المسلمين الذين اضطروا للتسليم بنظام حكم ديمقراطي مدني وحسب موقع ويكيبيديا فان الحبيب بورقيبة ومنذ تسلمه الحكم بعد ثلاثة أشهر فقط من إستلام بورقيبة للحكم، أصدر عن طريق البرلمان التونسي مجلة الأحوال الشخصية في 13 أغسطس 1956، وفي هذه المجلة صدرت العديد من التشريعات لكن التطبيق الفعلي لها لم يبدأ إلا بعد ستة أشهر أي في أوائل سنة 1957. من التشريعات صدور قانون منع تعدُّد الزوجات ورفع سن زواج الذكور إلى عشرين سنة، والإناث إلى 17 سنة. كما شملت المجلة كذلك قوانين إجتماعية خاصة بالزواج والطلاق؛ مثل قانون يمنع الزوج من العودة إلى مطلقته التي طلقها ثلاثًا إلا بعد طلاقها من زوج غيره، وقانون يجعل من الطلاق إجراء قانوني لا يتم الإعتراف به إلا عن طريق القضاء. وأصدر أيضاً قانون يسمح للمواطن بالتبني وأقر بورقيبة قانوناً يسمح للمرأة بالإجهاض ويعتبر قانون الاحوال الشخصية التونسي واحدا من ارقى فوانين الاحوال الشخصية في العالم واكثر القوانين عصرية وانصافا للمرأة وحقوقها.
وفي عام 1981 أصدر قانونا اسمه المنشور 108، والذي فيه يأمر بمنع ارتداء النساء لغطاء الرأس "الحجاب" تحت دعوى أنه يمثل مظهرا من مظاهر الطائفية، وأنه ينافي روح العصر وسنة التطوير السليم ولقد ظهر بورقيبة على شاشة التلفزيون في احتفال شعبي وهو ينزع أغطية الرأس عن بعض النساء قسرا قائلا "انظري إلى الدنيا من غير حجاب", كما انه حاول منع صلاة الفجر للشباب، وبدأت المخابرات تلاحق من يصلي باستمرار وكان بذلك يسعى لبناء دولة عصرية مع ان منع الصلاة واحدة من الجرائم وكبت بشع للحريات الا انها اشارة فقط الى رجل يسعى لتطوير بلاده وعصرنتها وهو في سبيل ذلك كان الأجرأ من غيره من الاقتراب من الدين فقد كان يرى وجوب إلغاء الصيام عن العمال لأنه يُقلل الإنتاجية، وفي عام 1962 مَنع الصوم واقترح أن يقضي العامل الأيام التي أفطرها عندما يُحال إلى التقاعد أو في أوقات أخرى كما حاول ثني الحجيج التونسيين من زيارة الأماكن المقدّسة وأداء مناسك الحج في السعودية لما فيه من إهدار لمقادير مالية من العملات الصعبة ودعى إلى التبرك بمقامات الأولياء والصالحين كأبي زمعة البلوي وأبي لبابة الأنصاري بدلا عن الحج في خطاب ألقاه في صفاقس يوم 29 أبريل 1964ومع كل الاعتراض على حكم ديكتاتوري الغى المعارضة وحكم البلاد في الحديد والنار الا ان ما انجزه في سبيل مستقبل بلاده واستقرارها جاء بالنتائج فيما بعد ومكن تونس من الصمود امام كل الهزات التي مرت بها وارسى قواعد احترام الدستور رغم سيطرته عليه وهو كان دائما يصر على ان يأخذ سلطته من الدستور ولذا لم يقم انتخابات مزورة ووهمية بل اقدم على تعديل الدستور ليأخذ الحق بالحكم مدى الحياة وهو ما انهاه وزيره الاول فيما بعد ووزير امنه زين العابدين الذي اطاحت به ثورة الشعب ولا زالت تونس حتى اليوم دولة عصرية واكثر بلاد العرب استقرارا على الاطلاق.
التجربة الابوية الناجحة التي مثلها نظام الحبيب بورقيبة كديكتاتور مستقيم وغير فاسد على المستوى الشخصي أشارت بوضوح الى ان النظام العربي القائم هو امتداد للنظام الابوي الا مع تنكر تام فقط لحقيقة ان النظام الابوي لا يمكن له ان ينجح بالفساد ومن شروط النظام الابوي واهم مرتكزات نجاحه الاستقامة فالاب نموذج يحتذى ويؤثر عائلته على نفسه ويقوم على التماسك والحب والايثار فلا يسرق الاب ابناؤه ولا يسمح بظلمهم وان كانت الامور تأخذ قيمتها من رايه وقناعاته الا ان الفساد وحده يسقط كليا أي حقوق لذلك النظام وفقط في حال تردي الاخلاق والفساد والسقوط يصبح من حق الابناء عشائريا الانقلاب على الاب فهو يأخذ شرعيته لكونه نموذجا يحتذى بالاستقامة والاخلاق وخدمة الغير لصالح الاسرة او الجماعة وللأسف فان في حال العرب حتى النظام الابوي لم يعودوا يستحقونه فشيخ العشيرة التي تتسع عباءته للكل اسقطوها بلباس العسكري المستورد.