الخميس 23/10/1445 هـ الموافق 02/05/2024 م الساعه (القدس) (غرينتش)
تأثير الماضي والحاضر على مستقبل الإنسان: دراسة حالة "أهل الكهف" لتوفيق الحكيم....خالد محمود

الناقد خالد محمود

مسرحية "أهل الكهف" لتوفيق الحكيم، نشرت عام 1933، تُعتبر واحدة من أشهر مسرحياته على الإطلاق، وهي مسرحية دينية ألهمت قصتها من قصة أهل الكهف في القرآن الكريم وتاريخ المسيحية.

تعتبر المسرحية من أبرز أعمال الحكيم التي لاقت نجاحًا كبيرًا، حيث طُبعت مرتين في عامها الأول وترجمت إلى عدة لغات من بينها الفرنسية والإيطالية والإنجليزية، مما يُظهر شهرتها العالمية والإقبال عليها.

على الرغم من نجاح المسرحية وقبولها الكبير من القراء والمتفرجين، إلا أن عرضها المسرحي لم يكن ناجحًا، حيث واجهت صعوبات تقنية وفنية في تجسيدها على المسرح. وعزا الحكيم نفسه سبب الفشل إلى أن المسرحية كتبت بشكل فلسفي وفكري يتناول مواضيع معقدة ومختلفة عن المسرحيات التقليدية.

توفيق الحكيم استوحى قصة "أهل الكهف" من القرآن الكريم ومن تاريخ المسيحية. تدور القصة حول مجموعة من المسيحيين الذين فروا من الاضطهاد وعاشوا في كهف لمدة قرون، ثم أيقظهم الله في عصر لاحق. ومع أن المسيحية تشير إلى أنهم ناموا لمدة مئات السنين، إلا أن توفيق الحكيم قد اعتمد في المسرحية على الروايات القرآنية التي تفيد بنومهم لفترة قصيرة.

تدور قصة المسرحية حول صراع الإنسان مع الزمن، حيث يستيقظ ثلاثة أشخاص بعد نوم دام قرونًا طويلة ليجدوا أنفسهم في عالم مختلف لم يعتادوا عليه، مما يجعلهم يشعرون بالوحدة والغربة في زمن جديد لم يكونوا مألوفين به.

الشخصيات الرئيسية:

مرنوش:

يُمثل الشخصية المحورية في المسرحية، وهو شخص ذكرى إمبراطور وثني يُدعى "دقيانوس".

كان مرنوش يخفي إيمانه بالديانة المسيحية عن الملك الوثني.

ينتمي إلى الطبقة الاجتماعية العليا في المجتمع، ويتصف بالحنكة والذكاء.

يعاني من صراع داخلي بين إخفاء إيمانه والوفاء للملك، وبين الاعتراف بإيمانه الحقيقي.

مشلينيا:

يمثل شخصية مهمة في المسرحية كخطيب ابنة الملك الوثني "دقيانوس"، بريسكا.

يخفي هو الأخر إيمانه بالديانة المسيحية عن الملك الوثني.

يتمتع بمواصفات الشخص النبيل والحاذق، ويظهر تضحيته ورغبته في البقاء مع حبيبته بريسكا.

يتعرض لصراع داخلي بين واجبه تجاه الملك وبين حبه الحقيقي لبريسكا وإيمانه الديني.

يمليخا:

الراعي يمليخا وكلبه قطمير

الراعي الذي ترك أغنامه وانضم إلى مرنوش ومشلينيا في الكهف.

يُمثل الشخصية البسيطة والصادقة، ويرمز إلى الوفاء والتضحية من خلال تركه لمصدر رزقه ليخدم أصدقائه في الكهف.

بريسكا:

حفيدة بريسكا الجدة التي أحبها مشلينيا وتعتبر العنصر النسائي الرئيسي في المسرحية.

تمثل الحب والتضحية والقوة العاطفية في العمل.

تواجه صراعًا بين ولاءها لعائلتها وبين حبها لمشلينيا وإيمانها الديني.

الشخصيات الثانوية:

جالياس:

مؤدب الأميرة بريسكا.

يُمثل الطبقة السياسية والإدارية في المجتمع.

الملك المسيحي الصالح - ملك طرسوس:

يمثل السلطة الدينية والسياسية، ويُظهر التسامح والاحترام للديانات الأخرى.

هذه الشخصيات تعكس مجموعة متنوعة من القيم والتصورات الثقافية والدينية، وتساعد في تطوير الموضوع الرئيسي للمسرحية.

المسرحية تعكس قضية الزمن وتواجهها بشكل فعّال من خلال تطوير الحوارات والشخصيات. يتجلى هذا في الحوار الطويل بين مشلينا ومرنوش في الفصل الأخير، حيث يناقشون مفهوم الزمن وتأثيره على الإنسان. في هذا السياق، يقوم الحكيم بتسليط الضوء على صراع الإنسان مع الزمن وكيف يؤثر هذا الصراع على نظرته للحياة والموت.

تظهر شخصية مشلينا كشخص مُصر على الحياة، يحاول الاستمرار والبقاء حتى النهاية. يعبر عن رغبته في العيش والاستمرارية، ويظهر قلقه حيال فكرة الموت. من جهة أخرى، يظهر مرنوش كشخص يقبل الواقع ويدرك حقيقة الزمن وكيف يمحو الحياة ويجعلها مجرد ذكرى في التاريخ.

 

الحوار يتناول مواضيع الحياة والموت، وكيف يؤثر الزمن في مفهوم الحياة البشرية. تظهر الفلسفة العميقة في كلمات مرنوش حيث يصف الإنسان بأنه "أحلام الزمن"، مما يشير إلى أن الحياة ذاتها قد تكون حلمًا أو وهمًا.

 

هذا النقاش يلقي الضوء على قضية الإيمان والدين أيضًا، حيث يرفض مرنوش الإيمان بالبعث ويصف نهاية الإنسان بالعارية من الأفكار والعقائد. يتجلى هنا تحول مفهوم الإيمان وكيف يتغير في ظل الزمن وتجارب الحياة.

بهذا الشكل، تظهر المسرحية كعمل فني يتناول موضوعات فلسفية هامة، وتعبّر عن تأملات توفيق الحكيم في معنى الحياة وكيف يشكل الزمن جزءًا أساسيًا من هذا المعنى.

بالرغم من أن المسرحية تستلهم قصة أهل الكهف من القرآن الكريم وتاريخ المسيحية، إلا أن الحكيم قد أضاف بعض التفاصيل والشخصيات الخاصة به، مما جعلها قصة مؤثرة تتناول موضوعات فلسفية واجتماعية عميقة.

في مسرحية "أهل الكهف"، ربط الكاتب توفيق الحكيم بين العقل والحياة الزوجية من خلال شخصية "مرنوش". يظهر "مرنوش" كشخصية متحررة من سيطرة العقيدة المسيحية ولا يؤمن بها إلا لأنه يحب زوجته التي اعتنقت المسيحية. يعبر "مرنوش" عن قلقه الشديد حول سلامة زوجته وابنه من مذابح "دقيانوس" أكثر من قلقه عن نفسه.

عندما يتضح للراعي أن "مرنوش" وأصحابه لبثوا في الكهف لمدة طويلة، يرفض "مرنوش" أن يقبل هذه الحقيقة لأن ارتباطه العميق بزوجته وابنه يجعله يشعر بأنهما ينتظرانه في الحياة الخارجية، وهذا الارتباط يعني له أنه لا يمكنه تركهما والذهاب إلى الكهف.

 

عندما يفقد "مرنوش" زوجته وابنه، يصبح ارتباطه بالحياة واضحًا، ويتجه إلى صديقه "مشلينيا" ليخبره بأنه فقد زوجته وابنه، ويطلب منه أن يصحبه إلى الكهف. يمثل هذا التصرف تغيرًا في تصور "مرنوش" للحياة وتوجهه نحو البحث عن الحقيقة والمصير الذي ينتظره في الكهف.

 

مسرحية "أهل الكهف" لتوفيق الحكيم تقدم ربطًا عميقًا بين العقل والحياة الزوجية من خلال تطور شخصياتها وتفاعلاتها داخل السرد المسرحي. توفيق الحكيم يستخدم الشخصيات وأحداث المسرحية لاستكشاف العلاقة بين الفكر والحياة العملية وكيف يتأثر الفرد بالمعتقدات والقيم في تشكيل مسار حياته.

من خلال شخصية "يمليخا"، يُظهر الحكيم تمثيلًا للعقل والتفكير النقدي. يمليخا يستفيق على الحقيقة ويبدأ بتحليل الوضع والتفكير بمنطقية وواقعية، مما يؤدي إلى تحولات في آرائه واعتقاداته. بينما تمثل شخصية "بريسكا" الجانب العاطفي والديني والروحي من الحياة. ترتبط بريسكا بالإيمان الديني والمعتقدات التقليدية، وتمثل الأمان والثبات في وجه التحولات والمحن.

 

تصطدم هذه الشخصيات المتناقضة في المسرحية، حيث يُظهر يمليخا الشك والتحليل العقلاني، بينما تعتمد بريسكا على الإيمان والتفاؤل الديني. تتداخل العناصر العقلانية والدينية في القصة، ويتباين تفكير الشخصيتين فيما يتعلق بالزمن والحياة والموت.

 

بالنسبة لموقف شخصيات المسرحية، فإن يمليخا يتجاوز المعتقدات التقليدية ويبحث عن الحقيقة والمعرفة بشكل منطقي وعقلاني. بينما تمثل بريسكا الوجه الروحي والديني للحياة، حيث تعتمد على الإيمان والأمل وتركيزها على الروحانية والعبادة.

 

بهذا الشكل، توفيق الحكيم يقدم رؤية متوازنة وشاملة للحياة الزوجية والعقلية، حيث يجمع بين الجوانب العقلانية والروحية والدينية، مما يعكس تعقيدات الإنسان وتنوع تجاربه ومسارات حياته.

مسرحية "أهل الكهف" تعتبر إحدى روائع الأدب المسرحي في العالم العربي، وهي من الأعمال التي أضافت قيمة كبيرة لتراث الأدب المسرحي العربي. يظهر فيها توفيق الحكيم بمهارته الفائقة في بناء القصة وتطوير الشخصيات وتوجيه الرسالة الفلسفية بشكل مباشر وعميق.

 

تميزت المسرحية بأسلوبها الفني الراقي وتنوع عناصرها المسرحية، حيث استخدم الحكيم الحوار الطويل بين الشخصيات ليعبر عن الصراعات الداخلية والتناقضات الإنسانية، وهو ما أضاف عمقًا وتعقيدًا للعمل المسرحي. كما اتسمت المسرحية بالبنية الدرامية الجيدة والتشويق في تطور الأحداث، مما جعلها محور اهتمام وتقدير الجمهور والنقاد على حد سواء.

بالإضافة إلى ذلك، قدّمت المسرحية رؤية فريدة لموضوع الزمن وتأثيره على الإنسان، مما جعلها تتميز بطابع فلسفي يعكس تفكير الحكيم في القضايا الإنسانية العميقة. وتأتي هذه الرؤية من خلال التفاعل بين الشخصيات والحوارات الفلسفية التي تتناول مفهوم الحياة والموت والزمن.

بهذه الطريقة، أثبتت مسرحية "أهل الكهف" نضجًا وإبداعًا فنيًا يجعلها تحتل مكانة مرموقة في تاريخ الأدب المسرحي العربي، وتجعل من توفيق الحكيم واحدًا من أهم الكتّاب والمسرحيين في العصر الحديث.

2024-02-16