الأحد 9/4/1446 هـ الموافق 13/10/2024 م الساعه (القدس) (غرينتش)
على هذه الأرض ما يستحق الحياة ...تحسين يقين


كان عشرينيا حين اكتشف سرّ الحياة على الأرض؛ بأنه"
"على هذه الأرض ما يستحق الحياة: تردد إبريل، رائحة الخبزِ في الفجر، تعويذة امرأةٍ للرجال، كتابات أسخيليوس، أول الحب، عشبٌ على حجرٍ، أمهاتٌ يقفن على خيط نايٍ، وخوف الغزاة من الذكرياتْ.
لم أدرك وقتها مقصده بتردد إبريل، هل هو عودته ثانية، أم تردده الحراري بين الصيف والشتاء. كما لم أدرك معنى التعويذة، ولا اسخيليوس وكتاباته، وحاولت أن ارسم صورة للأمهات اللواتي يقفن على خيط ناي ولم أفلح، كما لم أدرك سبب خوف الغزاة من الذكريات.  أما الحب فعرفنا القليل عنها، وأما رائحة الخبز فكانت دوما حاضرة في بيتنا الريفي،
ما بين "أوراق الزيتون" و"لاعب النرد" نصف قرن من الحب، وأغاني اليمام والكمان، أسفار في الأمكنة والأزمنة، ينشد منها مكانا أثيرا، هناك حيث ترسم الشمس برتقالة أو رمانة عند المغيب، هناك حيث يكبر قوس قزح ليملأ فضاء الجليل.
أوراق، أول اسم، ونرد كان هو الآخير، فهل ثمة لعبة هنا؟
كلا اللعبتين يعتمدان على الحظ؛ لذلك فكثير من الذكاء سيحتاج اللاعب!
هل هي الحياة؟ هل هي حياته الخاصة؟ هل هي قضية المكان؟ فما المسافة إذن بين حياته والوطن؟ جدلية الذاتية والموضوعية غريبة هنا لا تنطبق على شاعرنا، فهو في ذاته موضوع، وفي موضوعه ذات وفيهما معا شعر إنساني عظيم.
كان ستينيا في لاعب النرد، لكنه يحمل في قلبه العمر من الطفولة حتى آخر الكلمات.
إذن، لهم أن يختصموا حول اسم أسماء الورود، ولي ولآخرون كثر أن نراها، ونشم العبير، ونسمو.
 كان ديوان "عاشق من فلسطين" أول ما قرأت له، كنت قد سمعت عنه قبل أن أقرأ شعره أو أسمعه يلقيه، فلم يكن شعره متوفرا في مكتبة المدرسة، ولا في كتب اللغة العربية.
أذكر مكان قراءة الديوان، وهو فضاء شباك بيتنا القبلي؛ فهو غرفة صغيرة بسبب أنه بيت قديم عريض مداميك الحائط. كان مساء خريفيا، لكن أذكر وقتها صورة الشاعر الحالمة التي اشتهر بها بشعره الكبير ونقاء وجهه وجماله وإطراقته المتأملة.
كنا قد قرأنا شعرا عربيا، بما ينسجم مع عمرنا، ونحن في المرحلة الإعدادية، ولكنني حينما قرأت في الديوان، شعرت أن الماء غير الماء، والسماء غيرها، والقمر والشموس. اندمجت به، 'وما زلت حتى الآن' ، شعرت بنفسي وبمكاني وبتفاصيل الجبال وحياتنا هنا، سحرني، زادت ثقتي بنفسي وبالأرض بشجرها ونبتها، أحسست أنه أول من شرعن وجودي بطريقة ساحرة.
في شعره رأيت نفسي كإنسان، من خلال ما رأيت المكان-الأرض، حيث لم تكن فكرة الوطن والوطنية متبلورة لديّ، لذلك شعرت بقربه مني ومنا ومن الأهل والكروم والناس، فأحببته، وصرت أقبل على أي نص له، أو خبر.
بعد بضع سنوات حين أصدر درويش "ورد أقل"، نما فكر الفتى وشعوره، فرحت أتأمل كيف "يقطع شاعر طريقه الطويل الطويل"، فصرت أتعلم كيف يحول الشاعر الكلمات إلى كلمات شعرية، وكيف من خلال عبارة يلخص قصة، ومن خلال كلمة يكثّف تاريخا، ومن خلال كلمات يستدعي الأمكنة بأزمنتها، ليقول ما يريد، وليرينا ما رأى، فنكون فيه وبه وجودا ذا قيمة، وقضية إنسانية عميقة، ومتعة الفن إلى منتهاها.
عشنا كقراء شعره، بالنسبة لي لم أكتب غير أقل القليل، كنت واقعا تحت سحر الكلمات والمشاعر والأفكار واللغة. من ناحية أخرى لم أمتلك أدواتي النقدية الكافية للدخول إلى محمود درويش، كنت أعظمه في نفسي، وأجد أن إبداع الشعري يحتاج إبداعا آخر يوازيه. مع الاطلاع على ما كتبه النقاد، اكتشفت أنهم كانوا يركضون وراءه، فشعره كان ذا جناحين، يصعب التفوق عليه. وأزعم أنه لو أتيحت للنقاد الكتابة مرة أخرى لعدلوا الكثير، ولحيدوا عناصر كانوا يحسبونها مفاتيح القصيد.
بقيت هكذا، حتى سمعت ماجدة الرومي تغني "الزنابق البيضاء"، فعدت للقصيدة كاملة، فاكتشفت كم هي عظيمة، فكتبت عنها، محللا أجزائها، مبينا كيف أدار الشاعر حوارا عميقا كشف فيه زيف الغزاة، وكيف أظهر النزعة الإنسانية للبشر، وكشف سخرية الغازي المنتصر، فأحيا فيه شعوره الطبيعي تجاه الأشياء.
ربما من أجل ذلك وغيره استطاع الشاعر أن يقود المشهد الشعري العربي، واستطاع الحضور عالميا، وسيطول حضوره.
منذ عقود والكتاب والشعراء والفنانون والمفكرون معجبون به، ويحاكونه!
لم يستطيعوا الفكاك منه.
 حتى أنهم لم يستطيعوا مقاومة محاكاة إطراقته المتأملة في صوره، التي أغرتنا جميعا، الفنانين والكتاب لالتقاط صورة لنا تحاكي صورته، ترى من التقطها؟ وهل كان للشاعر نصيب من اجتهاد؟ ولي أن أتذكر ما خاطب هو صورته القديمة حين عاد لبيتهم في الجليل، قائلا هل أنا أنت؟
وهو الذي حين اختط طريقا في الشعر سار الشعراء وراءه.
ورغم إعجابه بالمتنبي فلم يسر وراء أحد.
كان شعرا بحد ذاته، لغة خاصة، شعورا وفكرا.
كان عمقا ينشد عمقا.
لقد كثّف الشاعر-الفيلسوف شهادته على الحياة في قصيدة لاعب النرد، والتي ما زلت أقرأها، لم انته منها، حتى ولو كتبت نصي عنها، سيطول عمر القصيدة طويلا، وشعره، أكثر بكثير من سنوات عمره.
ما أحوجنا للاعب النرد اليوم، لنقرأها على مهل، متأملين وجودية الشاعر، وفكره العميق، بسخريته الإنسانية أيضا!
ما أحوجنا للاعب النرد لنقرأه على مهل إنسانا من أروع البشر.
 في "عاشق من فلسطين" هو الديوان الثاني له بعد "أوراق الزيتون"، كان ابن 25 عاما. كان ذلك عام 1966. فيما بعد قرأت كيف صار ينظر الشاعر لبواكيره شعره، في شيء من النقد الذاتي، خصوصا بعد رحلته العظيمة التي ارتقى فيها بالشعر العربي. لكنني وقد عدت لقراءة دواوينه القديمة، خالفته الرأي، حيث أزعم أنه كان عظيما في كل شعره. وأن شعره عميق، وإنساني، يصدر عن نفس متأملة حتى ولو عدّ من طليعة الشعر المقاوم، فالسبب إنسانية نزعته.
"على هذه الأرض ما يستحقّ الحياة: نهايةُ أيلول، سيّدةٌ تترُكُ الأربعين بكامل مشمشها، ساعة الشمس في السجنِ، غيمٌ يُقلّدُ سِرباً من الكائنات، هتافاتُ شعبٍ لمن يصعدون إلى حتفهم باسمين، وخوفُ الطغاة من الأغنياتْ."
كثيرا ما تأملت بهذه السيدة التي تترك الأربعين بكامل مشمشها، حتى فسّرها لي الشاعر منذر عامر من رفاق الشاعر في الكرمل الثقافية، قال بأن المرأة التي التي تدخل الأربعين من العمر وهي جميلة تظل كذلك.
كبرنا وصرنا نستجلي المعاني الذاتية والوطنية.
هو النقاء التأملي، وهو جمال الروح، وهو العذوبة، وهو الفلسفة.
نقاء شعري لا مثيل له، ولغة خاصة، وأفق بعيد.
كان حكيما وهو في العشرين.
من "على هذه الارض ما يستحق الحياة" إلى جداريته التي ينتصر فيها الفن على الموت ويقهره.
ما الفن إذن إلا القيم الفطرية السليمة!
 شاعر الارض والانسان وسيظل كذلك.
 لهم أن يختصموا حول اسم أسماء الورود، ولي أن أراها، وأشم العبير، وأسمو.
لهم محمودهم، ولنا محمودنا
هكذا عبّر جبران يوما:
"لكم لبناننكم ولي لبناني!"
لبنانه النقي الجميل الوادع، ولبنانهم المقطع والمقتتل والمتخاصم والمذهبي...!
"على هذه الأرض سيدةُ الأرض، أم البدايات، أم النهايات، كانت تسمى: فلسطين، صارتْ تسمى: فلسطين، سيدتي, أستحق لأنك سيدتي، أستحق الحياة.
تلك سيدته وسيدتنا..
وهو سيد الكلام، فما الذي يبقى!
[email protected]

 

2015-12-20