السبت 18/10/1445 هـ الموافق 27/04/2024 م الساعه (القدس) (غرينتش)
انسحاب الحكومات أمام سلطة الإنترنت....سناء ابو شرار

 كم من الرائع أن تضغط على الزر الصغير فتجد كل ما تريد، آراء، مشتريات، أفكار، منشورات، كتب كل ما يخطر ببال أي منا يجده في عالم الإنترنت، ومن الأجدر بنا ومن الحكمة الادراك بأنه عالم حقيقي وليس افتراضي كما يصفه البعض. هو عالم حقيقي بكل أبعاده بل يبدو وأنه أصبح أو سيصبح أكثر واقعية وحقيقية من عالمنا الواقعي، لأنه يوجه تصرفات البشر وبهذا فهو أخطر من القوانين التي تحكم تصرفات البشر، فالتوجيه هو السيطرة على العقول أما التحكم فهو الإلزام القسري لسلوك معين قد يتم قبوله او رفضه ولكنه لا يدخل ضمن الإرادة الذاتية.

 

 وهو عالم  تتمدد مساحته في كل يوم، تتعدد توجهاته وأفكاره وأشخاصه، فهو أوسع من عالمنا الحقيقي ويتحرك بسرعة خاطفة أسرع من عالمنا الحقيقي، ويدخل به كل أصناف البشر دون حدود ولا قيود، فحتى الحكومات لا تستطيع مواكبة هذا التسارع شبه المخيف، إنه عالم يحتاج إلى جرأة كبيرة كي نعترف لأنفسنا كأفراد وتعترف حكوماتنا كمؤسسات بأنه يتجاوزنا ويتجاوزها، وأنه أخطر ما اخترع الإنسان لأنه يملك القدرة على غسل الأدمغة، على تغيير الشخصية، على تشوية القيم، على خلخلة البناء الأخلاقي للفرد، على منح التشجيع لكل ما هو غريب وشاذ وربما غير عقلاني.
وهذه المقدمة لا تنفي أهمية الإنترنت وفوائده العديدة على جميع المستويات ولكن ذلك بحالة الاستعمال الصحي والسليم والاستعمال الذي لا يشوه البنية العقلية للفرد والجماعات، ولا داعي للحديث عن هذه الفوائد فهي معروفة للجميع.
ولكننا ندخل في حقبة جديدة بعد سنوات من وجود الإنترنت في حياتنا ومن المنطقي ومن الحكمة أن ننظر حولنا ونعترف بما أحدثه الإنترنت في مجتمعاتنا ليس من تغيرات بل من تصدعات قد لا يكون هناك مجال لترميمها.
من ضمن هذه الظواهر: انتشار الجريمة وتشجيعها، انتشار الشائعات المؤثرة على الاقتصاد وعلى الاستقرار السياسي، خلخلة البنية الدينية للأفراد والجماعات عن طريق الطعن بالقيم الدينية ومهاجمة الرموز الدينية التاريخية والتجرؤ عليها من قبل من لا علم لديهم ولا ثقافة، تدمير البنية الأسرية عبر العلاقات المفتوحة وتشجيعها واعتبارها حرية شخصية ولو على حساب بنية الأسرة وتماسكها، نشر الأخبار التافهة والتركيز على فئة الراقصات والفنانات حتى أنهم سبقوا المخترعين والمثقفين في التواجد على شاشات الإنترنت، نشر الأفكار الإرهابية وتنشئة جيل مشوه الفكر والعقيدة وسهولة استغلال أنواع من الشباب تعاني من الفشل أو الإحباط النفسي أو الحقد الاجتماعي لتربيتها ثم ضخها في المجتمعات باسم الدين، تفكك الأسر وفقدان السيطرة على مستقبل الأولاد، فكل طفل يحتضن جهازه الخاص به وينفصل تدريجياً عن الأسرة إلى أن تلتقطه أحد المواقع فتحدث النتيجة المأساوية بانتحاره أو بقتله لأحد أو إدمانه لأي من أنواع الإدمانان المعروفة ومنها الإدمان الجنسي، انعدام الألفة بين أفراد المجتمع، لقد كنا في السابق حين توجد مشكلة ما يجتمع كل أفراد الأسرة لحل هذه المشكلة، الآن الحل هو الانسحاب مع الجهاز ومحادثته وإيجاد طرف غريب مجهول نبث له الهموم ويجد لنا الحلول وهي حلول لا تمت للواقع بصلة فتتقطع الروابط ويصبح النسيج الأسري هش وضعيف.
وربما أخطر ما هذه الظواهر هي أن النت يشجع ويدعم كل الاتجاهات، ففي العالم الواقعي نحن نقيّم بعضنا البعض وننتقد التصرفات السلبية فيتراجع من حولنا عن أخطاءهم ولكن في الإنترنت كل شيء له مشجع ومؤيد حتى أسوء السلوكيات لها من يدعهما، وحتى أعنف الجرائم لها من يروج لها، وحتى أشد مشاعر الحقد لها من يصفق لها. ثم حدث ولا حرج عن الترويج لعمليات التجميل والتسويق للأجساد الجميلة وللشباب الدائم ولعلاقات الحب التي تنقذنا من التعاسة. والترويج لجميع أشكال الأوهام والوساوس المرضية وجعلها حقيقة نتقبلها ونتناقش حولها رغم علمنا بأنها مخالفة لأبسط قواعد المنطق ولكن بما أنه تم نشرها على الإنترنت فهي تصبح مقبولة.
وأمام جميع هذه الظواهر وغيرها والتي لا مجال لحصرها، تنسحب الحكومات أو تقف متفرجة، فهي من ناحية خففت العبء عن نفسها بأن يتحول اهتمام موطنيها لمواضيع تافهة تُبعد أفكارهم عن المواضيع الهامة فعلاً في الحياة، وكذلك تريح الحكومات لأنها عبر الإنترنت تمرر كل الأفكار والقناعات دون جدل طويل أو انتقادات أكاديمية هامة، فيتم الاكتفاء بتغريدة أو بجملة على الفيس بوك وتنتهي الموجة سريعاً لتبدأ موجة أخرى دون أن يتم مناقشة وتحليل الموجة الأولى؛ والحكومات من ناحية أخرى تبدو فعلاً عاجزة عن مواكبة هذا التسارع الكبير سواء غرباً أو شرقاً، ولا تكاد تجد الوقت الكافي لتشريع قوانين جديدة كل يوم لمواجهة هذا المد الهائل الآتي عبر الإنترنت من جرائم ومن شائعات، ومن خلخلة للاقتصاد، ومن انتشار الجرائم الجنسية ضد الأطفال أو تجارة البشر، ومن الجرائم الإلكترونية، ومن العصابات الإرهابية المنظمة أو العصابات الإجرامية.
إنه جهد كبير يقع على كاهل الحكومات ومن غير المحتمل أن تستطيع السيطرة عليه أو استيعابه عبر القوانين فقط، لقد أفرز كل هذا المزيد من المشاحنات، المزيد من القضايا في المحاكم الشرعية والنظامية، المزيد من الجرائم، المزيد من أعداد المساجين، المزيد من حالات الطلاق، المزيد من الجنوح للقاصرين، المزيد من التفكك الأسري والاجتماعي، القسوة المعنوية، والتبلد الفكري، اللامبالاة، زيادة العنف الفكري بتصيد الشائعات أو بنشر الأكاذيب لتشويه سمعة الآخرين، تردي المستوى العلمي للطلاب، وأمام كل ذلك اختفاء المثقفين، الطعن برجال الدين، رفع قيمة أهل الفن وما يرتدون من ملابس أو لا يرتدون، تقليص مساحة الفكر والأدب، تقليص مساحة النقاشات السياسية الهادفة والتوعوية.
ومن ناحية أخرى، فإن الاعتقاد بأن كل فرد يجب أن يعرف كيف يتعامل مع الإنترنت هو تفكير ساذج لأنه لابد من الاعتراف بإدمان الإنترنت، فالحكومات تحارب إدمان المخدرات ولكنها لا تعترف بإدمان الإنترنت وأن هناك من لا يستطيع ترك هذه الشاشة ولا يستطيع فرز ما تقدمه له وأنها أسرته وأهله وكل مصادر الفكر لديه، وهناك من قدمت له هذه الشاشة شهرة تافهة سطحية تجعله يقول أي شيء ويقوم بأي شيء في سبيل المحافظة عليها، موضوع الإنترنت ومراقبته يتجاوز قدرة الأفراد ومن يستطيع مقاومته منهم هي الفئة المثقفة ثقافة عالية، أو المتدينة تدين حقيقي.
نتائج كثيرة لا مجال لسردها جميعها، ولكن على الحكومات أن تتوقف قليلاً أو كثيراً أمام هذا الإعصار الهادئ الذي يجرف البنية الاجتماعية والاقتصادية والتربوية وغيرها، لأن ما يجب أن تدركه الحكومات أن جميع نتائج ما ذكرنا أعلاه سينصب في مكاتبها ومحاكمها، ودوائرها وفي علاقاتها الدولية وفي سجونها المكتظة؛ كان يمكن للحكومات فيما سبق أن تتملص قليلاً من مسؤولياتها ولكن الآن وفي هذا الوضع المتفاقم لن تستطيع أن تفعل ذلك، فإن أغلقت الملفات سوف تظهر لها الشكاوي، وإن تجاهلت الجرائم سوى تصل إلى بيوت أحد أفرادها، وإن لم تراقب هذه الشاشة الصغيرة المفتوحة في كل البيوت وتصدر القوانين اللازمة التي تقنن جميع المظاهر السلبية، فسوف يأتي زمن يكون أغلب وقت الحكومات هو سن القوانين وفقاً لما يفرزه الإنترنت من ظواهر عنيفة، شاذة، مشوهه للفرد والمجتمع ومُهددة حتى لكيان الحكومات عبر شحن حشود العامة وإثارة الغوغاء وتخريب الممتلكات العامة والخاصة.

2019-05-22