الثلاثاء 6/11/1445 هـ الموافق 14/05/2024 م الساعه (القدس) (غرينتش)
الصوم والسياسة...د. حميد لشهب

لم تعمل الحداثة في شقها السياسي على هدم الأساطير والديانات، كما يتوهم الكثير من "أعدائها"، بل تعتبرها مخزن إلهام، تدجنها وتغيرها وتعيد توجيه وظائفها لهدمها وإعادة بنائها، قبل أن تطوعها لتصبح أداة لخدمتها. ويعتبر الصوم نموذجا للإستراتيجية السياسية في عالمنا المعاصر، لأنه يعرف تطبيقات جديدة في حياة الناس، وتُعْطَى له معاني جديدة، مزعزعة بذلك معانيه القديمة. ففي معارك استقلال الولايات المتحدة مثلا، التجأت بعض الولايات كفيرجيني ورود وإزلاند وماساشوزيت ابتداء من 1775إلى تنظيم أيام صيام، كان معظم المواطنين يشاركون فيها، للإحتجاج على الإستعمار الإنجليزي. نفس الإستراتيجية نهجها المدافعون على حق الإنتخاب للمرأة في أنجلترا عام 1905. ويبقى غاندي الوجه المشهور في هذا النوع من النضال، ابتداء من 1904. إذا كان الصوم يعني على الصعيد الفيزيزلوجي والنفسي نوعا من التنظيف والتنقية، وبالتالي تجديد الجسم والروح وإعطائهما دفعة حيوية ونشاط للإستمرار، فإننا نجد نفس الميكانيزم في الصوم السياسي (الإضراب عن الطعام). عندما نتأمل بعمق سبب مرور الصوم إلى الميدان السياسي، نجد بأنه جواب على استعمال نقيض له، يلجأ له المتنافسون السياسيون، ألا وهو إظهار كل وجوه "الشبع" والرخاء والرفاهية والجود بتنظيم حفلات أكل فوق العادة للأتباع، وتحكمهم في ما يضمن لهم استمرار وتوسيع نفوذهم على الصعيد الإقتصادي أو الإعلامي. في حين تعتبر استراتيجية الصوم السياسي، استراتيجية الضعيف، المحروم، المتروك لأمره. بمعنى آخر، إنها استراتيجية "بدون"، الذي أصبح يعبر عن فئات اجتماعية عريضة: "بدون عمل، بدون تغطية صحية، بدون تعليم، بدون حق إقامة" إلخ. نلاحظ إذن بأن اللجوء الإستراتيجي للصوم في السياسة هو ظاهرة اجتماعية شاملة، يتموضع في نقطة التقاء ما هو بيولوجي وديني ونفسي إلخ. بإمكانه قلب موازين القوة في بلد معين، إذا انتبهت الأغلبية المتضررة فيه إلى استعماله وتوظيفه لصالحها، وانخرط فيه أكبر عدد ممكن منها فيه؛ ليس فقط لأنها استراتيجية سلمية غير عنيفة، بل لأن الضعف هو قوة في العمق. كلما شعر الإنسان بنفسه ضعيفا نفسيا، كلما طور ميكانيزمات داخلية تمكنه من تحميس وتنشيط ذاته، تماما كما يقوم بذلك الصائم عندما يشعر بالجوع والعطش ويقوي نفسه من الداخل إما بفرحته لمائدة الفطور أو سروره بأنه يؤدي واجيا دينيا أو توحدا روحيا بالله. للصوم كاستراتيجية سياسية، وعلى الرغم من أنه مستعار من الدين، جذور عميقة في الفهم المعاصر للحقوق بصفة عامة. فحق الحياة، هو حق مشروع ومعترف به، والرضوخ إلى المطالب السياسية للصائم في توزيع الثروات بعدل وفتح باب حقوقه الإجتماعية والقانونية (تطبيب، سكن، تمدرس، نقل إلخ)، واجب على صاحب القرار. لا يمكن إذن ترك الصائم سياسيا يعرض نفسه للتهلكة في أقصى الحدود، لأن الصوم السياسي أفضل بكثير بالنسبة للحاكم من اللجوء إلى العنف الدموي وسفك الدماء. لا يتعلق الأمر إذن بانتحار أو حمق أو ما شابه ذلك، بقدر ما يتعلق بوعي الذات والبيئة السياسية والإجتماعية حيث يعيش الإنسان. إذا كان صوم رمضان فريضة دينية في الإسلام، فلماذا لا يلجأ "المناضل" في الدول المسلمة إلى الصوم السياسي، وهو أكبر جهاد، ضد يد الجبروت ليفرض فهما جديدا للتسيير السياسي في الدول المسلمة؟ لماذا لا تلجأ هذه الجحافل من المتطرفين والإرهابيين للقتل العمد باسم الدين، بُغية "تغيير" الواقع، عوض اللجوء إلى الصوم كأداة سياسية؟ لماذا تهاب الأغلبية "المطحونة" المطالبة بحقوقها بهذه الطريقة وتكتفي إما بالنقد "الفارغ" أو السقوط، بوعي أو دون وعي، في استراتيجيات التدجين للسلطات الحاكمة؟

2015-07-09