الأحد 19/10/1445 هـ الموافق 28/04/2024 م الساعه (القدس) (غرينتش)
في الفيلم الفرنسي «هيروشيما حبّي» للمخرج آلان رينيه الحب في زمن «النووي»

  "كما معه .. النسيان سيبدأ بعينيك. ثم كما معه سيبتلع صوتك.. ثم كما معه سيستهلكك كليا .. شيئا فشيئا ستصبح أغنية .." عبارة تعد نزرا بسيطا من نبع من الكلمات والبوح في الفيلم الفرنسي الدرامي "هيروشيما حبي" لعام 1959، أحد أكثر الأفلام تأثيرا وتميزا بفكرته وإخراجه وقوة أدائه على الرغم من بساطته واقتصاره على الأبيض والأسود. فالفيلم لا يتجاوز فترة زمنية ليوم وحيد التقت فيه ممثلة فرنسية مهندسا يابانيا في هيروشيما لتنثال أحاسيسهما وليعيشا فترة وجيزة من التولع والبوح الذي يفضي بالكشف عن الدفين.

"عندما كنا واقعين في الحب. عندما كنا سعداء." يرفل الفيلم الفرنسي للمخرج آلان رينيه بشاعرية مفرطة واستناد على الوقوف على الأطلال واستذكار الماضي من خلال الحاضر. بمزيج من الهذيان والمونولوج الداخلي والاسترجاع. يعكس الفيلم حقبة الموجة الجديدة للسينما الفرنسية، حيث قرر المخرجون من فئة الشباب الغوص في تجارب راديكالية في الإخراج والتعبير عن أفكارهم بجرأة أكبر بمؤثرات بصرية مختلفة. فيما نسجت السيناريو الروائية والكاتبة المسرحية الفرنسية مارجريت دوراس بلغة قوية تنهمر لتبوح بتلك الذكريات المثخنة بجراح لا تلتئم.

"شوهني إلى حد القبح .." يلتقي الألم وأنقاض الحب بأشلاء مدينة هيروشيما. فكلما تعمقت هي وهو في الاعتراف والبحث في الماضي ظهرت مشاهد من انعكاسات الحرب والمآسي في هيروشيما وكأنها مرآة للحب الفاني والعلاقات الغابرة. تظهر لقطات أشبه بالتصوير الوثائقي لهيروشيما وعذابات سكانها وتشوهات أجسادهم ومن ولد في تلك الحقبة بمشاهد موجعة.

"النسيان يبدأ بعينيك. ثم يبتلع صوتك. ثم يستهلكك كلياً. شيئاً فشيئاً لتصبح أغنية".

«فكما يوجد الوهم في الحب، والتوهم بأنك لن تنسى، كنت أتوهم أنني لن أنسى هيروشيما مطلقا». تتصاعد لغة شاعرية بأسلوب رفيع يظهر عمقا نفسيا بأبعاد تعكس حالة الانهيار والإحباط والرغبة في التمرد على كل شيء من خلال علاقة حب آنية بين ممثلة فرنسية ومهندس ياباني.

قامت بتأدية دور العاشقة الرائعة إيمانويل ريفا التي أتقنت دور الحزن المستطرد، وهي الممثلة ذاتها التي أدت الدور الدرامي الرائع لفيلم "الحب" لمايكل هانيكي لعام 2012، التي ترشحت من خلالها الممثلة ريفا لجائزة الأوسكار بعمر يناهز الخامسة والثمانين، فيما قام بتأدية دور المهندس الياباني الذي يلاحقها بهوس عقب يوم واحد من الحب، الياباني إيجي أوكادا. ليصبح اختلاف الثقافات افتتانا. وتتلاشى الفروق باختياره الحديث معها بلغتها الفرنسية وكأن في ذلك دلالة على لغة جسد وحوار واحدة، وإن تصاعد التضاد في وجهات النظر أكثر من مرة خصوصا في مدى رؤيتها وفهمها لمدينة هيروشيما إذ يعتبرها لم تر شيئا من الحقيقة.

"كنت شابة ذات يوم" ... برعت الممثلة ريفا في استغلال قدرتها في استخدام لغة الجسد ونظراتها المعبرة عن الأسى والخوف والحزن لتعمق من تأثير الفيلم في المشاهد. ليصبح مجرد موقف بسيط كتحديقها في المرآة بنظرة ساهمة واستمرارها بمونولوج داخلي أمرا يكشف حزنا وارتباكا داخليا وثورة على الوضع الراهن والماضي. بالأخص حين يتغلغل اليأس والقنوط ليدفع بالمرء برفض إعطاء الفرصة لشخص آخر في الدخول في حياته، وتحويل الحب إلى عادة روتينية للالتقاء بالغرباء حتى يصدف الاصطدام بشخص يشكل تغيرا محوريا يفيقه من تضجره، كما يصفها: «أنت ألف امرأة في امرأة واحدة».

بعيدا عن استعراض تأثير الحرب والهجوم النووي في هيروشيما، يختار المخرج رينيه الضبابية في التصوير، حيث منذ استهلال الفيلم تظهر أجساد أثيرية متعانقة قد تكون سقطت تحت أنقاض الحرب بانهمار ما هو أشبه بالرماد عليها. الأجواء المعتمة تستمر في الفيلم لتعكس الأسرار والرغبات الدفينة. فيما يتفاوت المكان ما بين غرفة في فندق وحانة وطرقات تارة، وتصوير وثائقي لشوارع هيروشيما الدامية وأجسادها المتهالكة. تلك الأجواء ضبابية لا تركز إلا على الحالة العاطفية المستعصية ما بين المرأة الفرنسية والرجل الياباني مجهولي الأسماء.

لتتفاوت الرغبات في الفيلم ما بين الحاجة إلى التذكر والنسيان، وما بين الكذب والصدق فهي تكذب، وتقول له الحقيقة، لكنها لا تجد داعيا للكذب عليه. التضاد ثيمة في الفيلم الذي يناقض كل فكرة ليبحر في الطبقات الدفينة للنفس الإنسانية النازعة إلى محاولة الاختيار بين أمرين.

تتلاقى أحداث هيروشيما كمنظر تلك المرأة المذعورة التي تخرج من بين الأنقاض في بداية الفيلم بالماضي كعلاقة حبها القديمة بالجندي الألماني التي تسببت بلفظ مدينتها الصغيرة "نيفير" لها وهروبها منها عقب تورطها العاطفي. السر الذي احتفظت به لنفسها حتى التقت به ليقرر تسميتها بنيفير، فيما تطلق عليه اسم هيروشيما.. مدينة المآسي والأحلام المحطمة وتشوه الذات. وكأن اختيار إبقاء اسميهما مجهولا ينم عن الرغبة في الغموض ورفض استمرار العلاقة بينهما بسبب تشوه أحاسيسهما الداخلية.

واختياره الجلوس في طاولة مقابلة لها في احترام لرغبتها أن يستمر كوهم في حياتها، أو كرمز لحيرتها من موقفها حياله. "أنت تحطمني.. أنت مناسب لي .. كيف لي أن أعلم أن هذه المدينة مفصلة للحب؟" فالوهم الذي وصفته موجودا في الحب، هو الوهم الذي لن يتم نسيانه. "فقد كنت موهمة بأنني لن أنسى مطلقا هيروشيما، كما في الحب .."

نداء أبو علي من الرياض

الاقتصادية

2015-08-03