الأحد 19/10/1445 هـ الموافق 28/04/2024 م الساعه (القدس) (غرينتش)
الحج إلى الديار الحجازية بين الفترة التكوينية والفترة الافتراضية ...د. روزلاند كريم دعيم

بعد الحج "بمرحلة": تشهد فلسطين التاريخية على الصعيد العام عدّة مهرجانات دينية تمتد من الربيع إلى الخريف؛ بين الحج إلى الديار الحجازية (هذا العام وفي ولعدّة سنوات قادمة)، احتفالات مار الياس الخضر عليه السلام، احتفالات سلطانة فلسطين السيدة العذراء عليها سلام الله، عيد التجلي في جبل طابور، وزيارة النبي سبلان عليه السلام. وجميعها مهرجانات حجيج تجمع بين العام والخاص وبين الديني والشعبي.  

بالرغم من انقضاء موسم الحج إلى الديار الحجازية هذا العام (2020) وانتهاء الاحتفاء بعيد الأضحى المبارك، إلاّ أنّ الحديث عنه ما زال مطلوبًا نظرًا لأنّ التغييرات الحاصلة في مراسم الحج هذا العام ستجد أثرها في السنوات اللاحقة لعدّة أسباب؛ أولّها: أن الحج إلى الديار الحجازية منوط بظروف سياسية وعبور حدود واستيفاء شروط الحج، وثانيها الحالات الصحية والاقتصادية المستقبلية لمن نوى الحج هذا العام. من هنا فإنّ حظر الحج هذا العام سيتطلب بالتأكيد إعادة توازن واتخاذ قرارات سياسية ودينية بناء على التطوّرات الكونية الآتية.

ويأتي حظر القيام بمراسم الحج على المستوى الدولي نتيجة للحظر الصحي العالمي، وبهذا فإنه يختلف عن سائر الاحتفالات بالأعياد المختلفة – التي صادفت في فترة الحجر - حيث تمَّت الصلوات في الأماكن المقدسة تحت ظروف احترازية، بينما احتفل الناس مع الأسرة أو في الطبيعة. أما الحج فهو فريضة تحتاج لتحقيقها ظروفًا رسمية وصحية واقتصادية واجتماعية، وهي محكومة بميقات معيّن لا تتم بغيره، إضافة إلى احتكامها بالمكان الذي لا يتغيّر.  

عيد الأضحى المبارك لدى المسلمين ولدى الموحدين المعروفيين الدروز

يحتفل المسلمون والمعرفيون الموحدون بعيد الأضحى المبارك في العاشر من ذي الحجة ويستمر الاحتفال به لمدة أربعة أيام. تسبقها الأيام العشر المباركة من ذي الحجة، التي يتم فيها الحج إلى بيت الله الحرام الكعبة في الديار الحجازية "وأتموا الحج لله" (سورة البقرة، 196)، ويصوم فيها من يرغب من المسلمين والموحدين تطوُّعًا.

يُعتبر الحج لدى المسلمين فريضة من أركان الإسلام الخمسة بينما يُعتبر لدى الدروز نافلة أي زيادة على فريضة العبادة. يتم تقديم الأضحية في أول أيام العيد.

تجمع احتفالات عيد الأضحى بين الجانبين الرسمي والشعبي، مما يسهم بتوطيد العلاقات الأسرية والاجتماعية.

أيام العشر هي الأيام التسعة الأولى من شهر ذي الحجة ولياليها العشر، والعبادة فيها من أفضل الأعمال. تقام فيها الصلوات وتكثر أعمال الخير وخاصة الصدقات، اليوم الثامن منها هو يوم الروية بينما التاسع هو وقفة عرفة، ويُعتبر "وقفة العيد".

بالنسبة للمعروفيين الموحدين يُعتبر عيد الأضحى من أهمّ الأعياد لأنه يُذّكِّر المؤمنين بيوم القيامة والآخرة ويحثّهم على الإكثار من فعل الخير وتأدية الفرائض الدينية والتضحية بالشهوات. وفي الماضي كان يُسمح لغير المتدينين حضور اجتماعات الصلاة في الخلوة.

الحج في الحضارة العربية: لطالما كان الحجيج مشروع عبادة وتجارة وسياحة بمفاهيم متغيرة وفق ظروف العصر والزمان والمكان. وقد سبق الحج إلى مكة المكرمة الإسلام وإن أصبح لاحقًا أحد أركانه الخمسة، فقد كان الحجاج من شبه الجزيرة العربية من المؤمنين على ملّاتهم والمشركين والوثنيين يحجون إلى مكة في بلاد الحجاز، إلى البيت العتيق الذي رفعه إبراهيم الخليل عليه السلام مستعملًا الحجر الأسود الذي يُقال إنّه من حجار الجنة، وقد رافقت الزيارة وطقوسها الدينية كالطواف حول الكعبة طقوس غير دينية كالمبيت في المكان للراحة من مشقة السفر، ناهيك عن التجارة وتبادل البضائع مما عزَّز من ازدهار المكان.

هذه الحركة النشطة إلى مكة ومنها أثارت حفيظة أبرهة الأشرم الحبشي الذي حكم اليمن (ت 570 م)، مما حدا به لبناء كنيسة "القُلَّيْس" الضخمة في نجران لتستبدل الكعبة وتستقطب القوافل والحجاج، متطلِّعًا بذلك لرفع مكانة اليمن الاقتصادية. وقام بدعوة شيوخ القبائل إلى الحج. وحين لم تستجب الشيوخ لدعوته قام بمحاربة قريش ومهاجمة الكعبة على رأس جيش ضخم من الفيلة وصل إلى أطراف مكة، سلب في طريقه ما آلت إليه يداه، لذلك سمي العام بـ "عام الفيل".

وكان عبد المطلب بن هاشم حاكم مكة قد أشار على أهل قريش بالقتال إلاّ أنّه تراجع خوفًا عليهم من عار الهزيمة.

وفي لقاء هدنة بين أبرهة وعبد المطلب طلب الثاني استعادة مائتين من البعير التي نهبتها جيوش أبرهة من بين ما نهبت، أما بالنسبة للبيت العتيق فقد قال عبد المطلب "للبيت رب يحميه". وقد وردت القصة بصيغ متقاربة جدًّا على لسان المفسِّرين وهي تستدعي قراءة مقارنة.

وهكذا همَّ أبرهة الحبشي بدخول مكة لولا أن السماء أمطرت "طيرًا أبابيل" (يُنظر سورة الفيل) فأُصيب جيش أبرهة وخسِر المعركة. ومن الجدير ذكره في هذا السياق أنّ الحادثة التي وردت في سورة الفيل لم تتطرق إلى تفاصيل الحادثة أو أسماء أبطالها، وإنما يُعرف ذلك من قراءة أدبيّات ذلك الزمان على لسان المفسّرين، بناء على الروايات التي كانت سائدة حينها.  

من القضايا التي أضافت زخما وتستحق البحث والتفكير لقصة الهجوم على الكعبة أنها صادفت ولادة الرسول (ص)، رغم أنها حدثت قبل ظهور الإسلام بنحو 40 عامًا، ولدور عبد المطلب – وهو عم الرسول (ص) - بالدفاع عن الكعبة، بالرغم من كونها مكان عبادة أممي لجميع سكان الجزيرة من وثنيين ومشركين وحنفاء ويهود ونصارى، ومركز رفادة وسقاية وتجارة لجميع القوافل، ولعل المشهد الأقوى هو انتصار الطيور الأبابيل على جيش الفيلة.

ولو عُدنا إلى أبرهة الأشرم – الذي نُسِجت حوله الحكايات في المصادر البيزنطية والسريانية وخط المُسْنَد – فإنّ تصرفه هو الآخر يثير التفكير والجدل. هل انتهت مشاكله في تعزيز مملكته وحكمه في اليمن؟ هل تغلَّب على الفتن الداخلية ليبادر إلى معركة يشقّ فيها الصحراء مع منطقة بعيدة لها مكانتها البارزة بين القبائل ولا يجمعها خلاف سابق معه أو مع اليمن؟ هل كان بحاجة ملِّحة لهذا المركز الاقتصادي بالفعل أم أنه كان قد اطّلع على أساطير سريانية تفيد بعودة السيد المسيح له المجد في آخر الزمان إلى اليمن فأراد تعزيز مكانتها؟ أسئلة عديدة تثير تحدّيات فكرية في تلك الخلفية الأسطورية التي رافقت أحداث عام الفيل وكانت السبب المباشر لها.

الفترة التكوينية للحج: وردت قصة فداء إبراهيم الخليل في التوراة في سفر التكوين (22، 1 - 19) وفي القرآن الكريم في سورة الصافات (99 – 112)، مع اختلاف في شخصية الذبيح حيث ورد اسحق في الرواية اليهودية بينما ورد إسماعيل في الرواية القرآنية. وتفيد الحكاية باستعداد إبراهيم الخليل لتقديم ابنه كقربان على مذبح الرب استجابة لأمر من الله، إلاّ أنّ ظهور الملاك بكبش فداء ألغى تقدِمة الابن واستبدلها بتقدِمة الكبش، وهو ما درجت عليه العادة لاحقًا حيث يتم تقديم الأضاحي في أول أيام عيد الأضحى المبارك.

وتثير الرواية عدّة تحدّيات لدى القارئ الناقد، عدا عن الاختلاف بين الروايتين اليهودية والإسلامية، وعدا عن تحدّيات تقدمة القرابين البشرية التي كانت سائدة في ذلك العصر، إذ يجد القارئ الناقد تحدّي التضحية بالأبناء في حين كان الوعد بذرية كنجوم السماء، أما التحدّي الثاني فهو انتزاع الولد من أمه، والتحدّي الثالث هو زعزعة العلاقة العاطفية بين الأب وابنه. تحدّيات واجهها إبراهيم خليل الله في قصة الأضحى، تحدّيات لا بد أن رافقتها صراعات داخلية وربما خارجية بين الشخصيّات لم يتم توثيقها بتوسع في الرواية الدينية الرسمية.

سارة وهاجر: كانت سارة زوجة إبراهيم عاقرًا بينما أنجبت له جاريتها إسماعيل. فطلبت سارة من إبراهيم أن يأخذ هاجر وابنها إلى مكان بعيد كي لا تشتعل الغيرة في قلبها وتُغضِب ربّها بالرغم من أنّها أنجبت لاحقًا اسحق.

البيت العتيق: وصل إبراهيم مع هاجر وابنها إلى أرض الحجاز وتركهما في مكان خال من الزرع "ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلوة فاجعل أفئدة من الناس تهوى إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون" (سورة إبراهيم، 37). ويواجه القارئ الناقد تحدِّيًا إضافيًّا وهو كيف يقوم الوالد الذي يُعتبر أوَّل من آمن بوحدانية الله والذي أصبح لاحقًا أب لشعوب عديدة بترك ابنه في مكان قفر خال من الناس وإن كان ذلك بأمر من الله.

وضعت هاجر طفلها على جلد كبش فرشته على الأرض وصنعت خيمة صغيرة. كانت تجمع الحطب لتوقده وتصنع رغيفًا لطعام ولدها وطعامها. حين نفذ الماء في القربة وطلب ابنها الماء قامت تهرول بين المرتَفَعَيْن - الصفا والمروة، تنتظر قافلة قادمة تُنجِدها، فركضت سبع مرات بين الجبلين، وفي هذا الوقت كان إسماعيل يبكي ويضرب الأرض بقدمه ففاضت المياه من الأرض وارتفعت فأسرعت لتصنع حوضًا من المياه بيديها ويُقال إنها قالت للمياه "زُمي زُمي" ومن هنا سمي البئر زمزم. وقدمت إلى المكان قبيلة جرهم بعد أن رأت طيرًا يحوم فوق الماء فاستوطنت بعد استئذان ومنها تعلم إسماعيل العربية. واكتسب المكان قيمته المضافة بأن أصبح مقرا لاستراحة القوافل مما ضمن لهاجر وإسماعيل الطعام وإمدادات أخرى.

وبأمر سماوي رفع إبراهيم البيت العتيق ليكون أول بيت وُضِع في الأرض لعبادة الله (آل عمران، 96 – 97). وكان يطوف وإسماعيل حوله كل يوم ويقولان: ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم. وارتفع البيت نحو ثمانية أمتار. ولاحظ إبراهيم فراغًا في زاوية البيت العليا فأحضر الحجر الأسود الذي يُقال إن الملائكة نزلت به من السماء (البقرة 124 - 127) – وعلى ما يبدو فقد كان لونه أبيض من الوهج إلاّ أنّه تحوّل لأسود بفعل عوامل طبيعية، وجعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس (المائدة، 97).

بدأ إبراهيم الصلاة في الكعبة وتبعته القبائل وتحوّل إلى مكان عبادة للوثنيين واليهود والنصارى والمشركين، إلى أن تحوّل مع ظهور الإسلام إلى مكان عبادة للمسلمين، حيث قام الرسول (ص) عام 630 م بتحطيم كل الأصنام في الكعبة وجوارها، وحين همّ خالد بن الوليد بنزع أيقونة بيزنطية من الموزايك للسيدة العذراء وولدها كانت مزروعة في الحائط اعترضه الرسول (ص) قائلًا "إلاّ هذه يا خالد" وغطّاها بستارة.

وأرسل الله ملاكًا يعلِّم إبراهيم وهاجر وإسماعيل الحج ونظامه (سورة الحج، 25 – 29). وبعدها أتى اختبار الله لإبراهيم بذبح ابنه (الصافات، 102 – 111). وكان أن زار إبراهيم هاجر بعد مدّة، ووصلته في منامه رسالة التضحية بابنه إسماعيل على جبل عرفات ليُحسَم الأمر بأن أرسل الله كبشًا سمينًا يُضَحّى به فداء لإسماعيل. ومن هنا أتى اسم العيد الأضحى ومع الإسلام أصبح الحج إلى مكة المكرمة من أركان الإسلام، لمن استطاع إليه سبيلا (آل عمران، 97).

تقاليد الحج المعاصرة: الحج عبادة مفروضة لزيارة بيت الله الحرام والقيام بمناسك الحج والطواف حول الكعبة والسعي بين الصفا والمروة في فترة محدّدة من كل عام. ولا يتم الحج إلاّ بالاحتكام الزماني والمكاني وبالقيام بمناسكه كاملة.

ممارسات وتقاليد ومناسك الحج لا تتغيّر بشكل جوهري، وإنّما الذي يتغيّر هو كيفية الوصول إلى مكة لتأدية فريضة الحج. فقد اعتاد الناس في الماضي السفر مباشرة بعد عيد الفطر على الجمال والخيل في دروب مُعَدّة لذلك من المناطق المختلفة تُسمى "درب الحَجيج".

تطوّرت طرق السفر مع التطوّرات التكنولوجية فأصبح السفر بالحافلات والسيارات والقطارات والطائرات الأمر الذي يوفّر وقتًا كثيرًا على الحاج منذ خروجه من بيته إلى حين وصوله إلى مكة وعودة منها. كما أن المَرافق حول الكعبة وسُبل استقبال الحجاج تطوّرت وتغيّرت كثيرًا.

كذلك الأمر مع العادات المرتبطة بتوديع الحجاج واستقبالهم، إذ يودّع الحاج معارفَه وأصدقاءَه وأسرتَه ويتصالح مع من اختلف معهم لسبب أو لآخر. غالبًا ما يزور الأهل والأصدقاء الحاج لتوديعه ولكن هذا لا يمنع الحاج من زيارة المسنين الذين يكبرونه سنًّا أو من يرغب بالصلح معهم. وبعد عودة الحاج يتم استقباله بمراسم فرح وقد تُذبَح ذبيحة على باب البيت، ويوَزّع على الضيوف ما أحضر الحاج معه من مذّكرات ومسابح ويقدَّم لهم ماء زمزم للشرب.

ورغم العصرنة والتطوّرات التكنولوجية إلاّ أنّ العوامل الخارجية قد تعيق من رغبة الحاج ونيّته على الحج. على سبيل المثال لو أخذنا الحجاج الفلسطينيين في المنطقة المسماة "داخل الخط الأخضر"، فمن المعروف أنّهم حُرِموا من فريضة الحج بين السنوات 1948 – 1979 نظرًا للظروف السياسية، بالرغم من أن درب الحجيج البرية بين فلسطين والحجاز موجود، وخط القطار برلين الحجاز موجود، وكان الطيران من مطار اللد إلى بلاد الحجاز متاحًا أيضًا حتى عشية 1948. وحين عاود الحج بعد اتفاقيّات دولية كانت قد تطوّرت سبل الحجيج وإمكانيّات السفر، إلاّ أنّ السفر إلى مكة للعرب الفلسطينيين في "الداخل الفلسطيني" منوط بشروط عديدة ووكلاء حجيج وسفر مرورًا بالمملكة الأردنية الهاشمية عن طريق جسر الملك حسين المعروف أيضا "جسر أللنبي" وهذا يضيف على الحاج محطّة إضافية في طريق سفره وتكاليف مادية باهظة، وطبعًا للحجاج الفلسطينيين من خارج الخط الأخضر بحسب المسميات السياسية، وإن كنا جميعنا سكان وأبناء فلسطين التاريخية، ظروف سياسية خاصّة في فترة الحج.

أما بالنسبة للمعروفيين الموحدين فقد ذكرنا أنّ الحج لديهم نافلة وليس فريضة، ولهذا السبب لا يُسمح لمن يسكن في فلسطين داخل الخط الأخضر أو الجولان القيام بمراسيم الحج بينما تشير وثائق لبنانية وسورية تاريخية إلى قيام شخصيّات معروفية بارزة بالحج إلى الديار الحجازية.

أما ظروف الحظر العالمية فهي جديدة علينا وفرضت شروطها على الكون والعبادات ومنها الحج إلى الديار الحجازية هذا العام، فمن عقد النية على ذلك سيضطر إلى تأجيل حجته إلى حين، بحسب ظروف مستقبلية غير واضحة الأبعاد والشروط.

2020-08-17