السبت 18/10/1445 هـ الموافق 27/04/2024 م الساعه (القدس) (غرينتش)
الضمان الاجتماعي في فلسطين وأزمة الثقة.....بقلم: المحامي إبراهيم ذويب

يكمن جوهر إشكاليات وأزمات الضمان الاجتماعي في المنطقة العربية، في درجة الحوكمة في إدارة هذه الأموال، وما يرتبط بذلك من شفافية ونزاهة، حيث أن هذه الأموال المورّدة إلى الصناديق عبارة عن مساهمات اقتطعت من عرق الناس وكدّها وتعبها، وعليه فإن غياب الإدارات الحكيمة الشفافة التي تعمل تحت الضوء، تبدد هذه الأموال أو تسيء استخدامها. فالإدارة الكفؤة لهذه الأموال والإستثمارات ضرورة مُلحة، لأن ثمة نسبة جيدة منها تذهب في اتجاه الاستثمار، حتى تعود بالفائدة لمنفعة المساهمين. أما إذا ذهبت هذه الاستثمارات لاتجاهات غير محوكمة وغير دقيقة فيمكن أن تأتي بنتائج عكسية، خاصة اذا كانت استثمارات فيها مخاطر عالية مما يشكل يهدد مصير أموال صناديق الضمان الإجتماعي، وهذه من أبرز إشكاليات الضمان في غالبية البلاد العربية وأحياناً ومعظم دول العالم الثالث.

 في فلسطين، طرح موضوع الضمان الإجتماعي بدءاً من قانون التأمينات الإجتماعية رقم (3) لسنة 2003، مروراً بقرار بقانون رقم (6) بشأن الضمان الإجتماعي لعام 2016 والذي أثار احتجاجات واسعة حوله، تم تعديله بقرار بقانون رقم (19) لسنة 2016 بشأن الضمان الإجتماعي الصادر بالعدد الممتاز رقم (13) في الوقائع الفلسطينية والذي أيضا تم تعليق العمل به نتيجة تلك الاحتجاجات وأسباب أخرى.

هذه الاحتجاجات والناجمة في معظمها عن غياب الثقة، ساهمت وساعدت أصحاب الأعمال في إثارة الأجواء السلبية والاعتراضات، ضد هذه القوانين والتي هي بالأساس حقوق دستورية للعاملين في القطاع الخاص أسوة بنظرائهم العاملين في القطاع العام وأعضاء النقابات المهنية، لذلك ازداد الخوف لدى العاملين على أموالهم وعلى طريقة إدارتها، وساعد ذلك على سهولة تحشيدهم. وفي الحقيقة كان تلك الاحتجاجات ضد مصالح العاملين الذين كانوا كمن يطلق النار على قدميه. 

في فلسطين، كما في سائر دول العالم، أصحاب الأعمال لديهم خبراء ومستشارون قانونيون وماليون، لدرجة أن أعضاء في مجالس الإدارة لديهم مستشارون في الظل،  بينما  فريق العمال لا يملكون هذه القدرات والخبرات ويعتمدون على ذاتهم  عبر ممثليهم  ببساطة وعفوية أحيانا، وباستشارات محدودة أحيانا أخرى أثناء قيامهم  بدورهم على اعتبار أنهم قادة، مما يشكل مخاطر جدية من ناحية الإدارة الحكيمة للأموال، وبخاصة عندما ينشأ انسجام بين طرفين من الاطراف الثلاث، وعلى الأغلب يحصل التوافق بين ممثلي فريق الأعمال وممثلي الحكومات، حيث أن غالبية مجالس إدارة صناديق الضمان الإجتماعي في أغلب الأحيان بالمنطقة العربية يرأسها بالاستناد لنصوص القوانين والتشريعات العربية، وزراء العمل وأحياناً وزراء الشؤون والتنمية الإجتماعية في بعض الدول. هذه الرئاسة لمجالس الإدارة تحد من دور النقابات وأصحاب الأعمال الى حد كبير، لذلك في فلسطين لدينا سببان للتخوف الحقيقي، وهما ساهما في مقتل فكرة الضمان الإجتماعي: الأول يتمثل في سوء الإدارة وغياب الثقة مع السلطة وحكوماتها المتعاقبة، وكان المنظور الاسترشادي الذي انطلقوا منه هو صندوق التقاعد العام الخاص بالموظفين في القطاع العام والذي كانت الحكومة تستدين من أمواله، والتي يجب أن تكون موجهة للاستثمار وليس للإقراض، مما جعله في بعض المراحل خاويا وغير  قادر على تسديد مستحقات رواتب المتقاعدين، مما شكل خطراً لعدم الاستدامة بالتسديد للمتقاعدين، وفي غالبية الأحوال تدفع السلطة للمتقاعدين من خلال الموازنات الشهرية للموظفين العاديين، على الرغم من عدم وجود علاقة بين المتقاعدين والموظفين من حيث مصادر الدفع، كان هذا مثالا فاقعا تخوف منه العاملون في القطاع الخاص وكان مصدراً للتحريض ضد قانون الضمان الإجتماعي.

والسبب الآخر ما اتصل بالعاملين في المشاريع الإسرائيلية، فمنذ مطلع سبعينات القرن الماضي كانت تتراكم في صناديق خاصة حسومات على العاملين عبر مشغليهم الأسرائيليين لغايات الضمان الإجتماعي، كان يتوجب على الإسرائليين ان يدفعوا بها الى صناديق الضمان الأجتماعي، حسب بروتوكول باريس الاقتصادي بعد إقرار القانون وتشكيل الصندوق كما يجب. لم يحسن ممثلو العمال إقناع العمال بأهمية الضمان الاجتماعي، وتعزيز الثقة لديهم بأن هذه الأموال هي لهم، ولا مجال أن تسرقها أو تستولي عليها أية جهة أو سلطة أو حكومة، بحسب ما كان يثار في أوساط العمال من إشاعات، إنما هي ترصد في صناديق ضمن أرقام خاصة لكل عامل باسمه ورقمه الخاص، يراكم عليها أية إشتراكات أخرى  أثناء عمله  لدى أي منشأة في المشاريع الفلسطينية. 

هذا ما دفع للأسف بالعمال الفلسطيين داخل الخط الاخضر، بمساعدة من بعض المحامين من أجل منافع بسيطة إلى كسر هذه المبالغ المترتبة عند الإسرائليين مما شكل خسارة ما يزيد عن 30% من قيمة هذه الودائع، هذه الخسائر لم تكن نتيجتها وأضرارها الاقتصادية على العمال وحدهم، بل امتدت حيث لها أبعاد وطنية كأضرار على الإقتصاد الوطني الفلسطيني بشكل عام، بينما الاسرائليون مستفيدون من كسر هذه الودائع، لذلك فإن القدرة على تعزيز الثقة بين جميع الأطراف والقناعات المشتركة، لابد من توافرها لتشكل مدخلاً لإعادة النظر وإقرار قانون ضمان إجتماعي عصري يشكل مدخلا للحماية الاجتماعية والمساواة في الحقوق والوجبات، للعاملين في القطاع الخاص لحمايتهم في حالات العجز والشيخوخة، على أن تكون الحوكمة جزءا رئيسيا في خلق الطمأنينة والأمان للعاملين على مساهماتهم في صناديق الضمان الإجتماعي والائتمان عليها.

* محاضر جامعي مختص بالتشريعات الإجتماعية

 

2023-04-08