السبت 25/10/1445 هـ الموافق 04/05/2024 م الساعه (القدس) (غرينتش)
نظرة نقدية على المناطق الصناعية الإسرائيلية-الفلسطينية 'الأسباب والنتائج'/ جورج كرزم

جورج كرزم
مركز العمل التنموي/ معا

طورت فترة الحكم الذاتي الفلسطيني ورسخت مصالح وارتباطات مالية-تجارية عضوية وبنيوية بين الرأسمال الفلسطيني الخاص وأفراد في السلطة الفلسطينية، من جهة، وبين شركات تجارية ومالية إسرائيلية، من جهة أخرى؛ بحيث أصبحت القوة الدافعة لدى الطرفين  المستفيدين من هذه الارتباطات أن تستمر مصالحهما وتتعمق وبالتالي أن تتواصل المكاسب الشخصية والأرباح المالية وغير المالية.  لهذا فإن استبدال اسم الحكم الذاتي الإداري بـ"الدولة"، لا بد أن يشكل تجسيدا وتثبيتا لهذه المصالح والارتباطات؛ بحيث تكون بنية "الدولة" منسجمة مع مصالحهم وعلاقاتهم التجارية-المالية والشخصية وضامناً لاستمراريتها وديمومتها.
وفي السياق الكولونيالي ذاته جاءت تحديدا فكرة المناطق الصناعية المخطط (اسرائيليا وفلسطينيا) إقامتها في بعض المواقع "الحدودية" بالضفة الغربية وقطاع غزة وتشغيل قوى عمل فلسطينية فيها،  بحيث تعتبر المناطق الصناعية جزء من المشاريع الاسرائيلية-الفلسطينية المشتركة التي دعا الاتفاق الإسرائيلي-الفلسطيني المرحلي (عام 1995) الى إقامتها.  وقد فُرِضَت تلك المناطق على السلطة الفلسطينية التي أذعنت لها بسبب الاتفاقيات السياسية مع الاحتلال.  والمثير أن اتفاقية الامتياز للمنطقة الصناعية في مرج ابن عامر (في جنين)، على سبيل المثال، تعتبر قضية فساد بامتياز؛ فالجهة الفلسطينية التي وقعت تلك الاتفاقية جردت السلطة الفلسطينية من أية صلاحيات أو ولاية على هذه المناطق.
وتذكرنا هذه المناطق الصناعية بعملية تصنيع إسرائيل لمستعمراتها، منذ بداية الثمانينيات، حيث أقامت إسرائيل هناك عشرات المصانع وشغلت فيها آلاف العمال الفلسطينيين.  وقد هدفت إسرائيل آنذاك من هذه العملية الى التقليل من تكلفة نقل العمال الفلسطينيين العاملين في المشاريع الإسرائيلية بداخل إسرائيل، من جهة، وتخفيض تكلفة نقل المنتجات الإسرائيلية المصنعة الى الضفة الغربية وتسويقها هناك، من جهة أخرى.  الأمر الذي منح الصناعة الإسرائيلية مزايا إضافية في منافستها للصناعة الفلسطينية على قوة العمل والأسواق؛ وفي المحصلة، تسببت هذه المستعمرات ليس فقط في اقتلاع المزارعين الفلسطينيين من أراضيهم وتحويلهم الى أيدي عاملة رخيصة في سوق العمل الإسرائيلي، بل أيضا أعاقت تطور القطاعات الفلسطينية المنتجة وأذابت المناطق الفلسطينية في الاقتصاد الإسرائيلي.
المهم في الموضوع، أن معظم المصانع والمنشآت المتوقع قيامها في المناطق الصناعية لن تكون فلسطينية أو عربية، بل هي ملك للشركات الأجنبية والإسرائيلية، وبالتالي لن تشكل هذه المنشآت قطاعا من قطاعات الاقتصاد الوطني الفلسطيني، لأن إنتاجها وصادراتها سيسيران في دورة منفصلة عن الاقتصاد المحلي.  والأنكى من ذلك، أن هذه المناطق الصناعية، باعتبارها إسرائيلية-فلسطينية مشتركة، ستستخدم لتبييض سلع مصانع المستعمرات في الضفة، وإعادة تدوير شهادات المنشأ، والالتفاف بالتالي على المقاطعة الاقتصادية وغيرها أمام الرأي العام المحلي والعالمي.
وما عدا استفادة السلطة الفلسطينية من العائدات والضرائب المباشرة التي تدفعها لها هذه المنشآت، فضلا عن بعض العملات الصعبة التي لن يستفيد منها سوى شريحة هامشية في المجتمع الفلسطيني، فإن استراتيجية هذه المنشآت لا تجسد احتياجات المناطق الفلسطينية التنموية والاقتصادية ومصالحها، نظرا لارتباط هذه الشركات والمصانع بمراكزها الأم في إسرائيل أو أميركا أو أوروبا، حيث توجد أيضا أسواقها.  بمعنى أن ارتباط ومصلحة هذه المنشآت الأجنبية، من حيث الإنتاج والتسويق، هما مع السوق العالمية أساسا، ناهيك أن غايتها بالدرجة الأولى الأرباح الكبيرة قبل أي اعتبار آخر.  وفي المحصلة، نقطة الارتكاز بالنسبة لإستراتيجية المناطق الصناعية المقرر إنشاءها هي إخضاع "التنمية" المحلية لمتطلبات التوسع الرأسمالي الخارجي.
ومن منظور تنموي شمولي، المسألة الجوهرية هنا ليست مجرد أن المناطق الصناعية سوف تشغل بضعة مئات أو آلاف من الأيدي العاملة الرخيصة، بل، ونظرا لغياب الرأسمال المحلي والعربي بشكل صارخ في هذه المناطق، فإن الفائض المتراكم في هذه المناطق لن يعاد استثماره في المناطق الفلسطينية للتنمية الاقتصادية-الاجتماعية الحقيقية، بل سيسرب معظمه إلى الخارج لصالح المستثمرين الأجانب وينفق الجزء التافه المتبقي منه محليا على البذخ العمراني والسيارات الفاخرة وما الى ذلك.
وينفذ حاليا، بتمويل واستثمار ألماني- تركي- ياباني وإسرائيلي، مخطط تحويل مساحات كبيرة من مرج ابن عامر الذي يعد من أخصب الأراضي الزراعية في فلسطين التاريخية بعامة وفي الضفة الغربية بخاصة- ينفذ مخطط تحويل تلك المساحات إلى منطقة صناعية كبيرة تزيد مساحتها عن ألف دونم، وتحديداً بمحاذاة  بلدة المقيبلة داخل الأراضي المحتلة عام1948.  وقد تم إغراء عشرات المزارعين الذي باعوا أراضيهم بالفعل لغرض إقامة المنطقة الصناعية.  وهذا  يعني تدمير المرج، الذي صادر جدار العزل الكولونيالي قبل ذلك مساحات كبيره مما تبقى منه.  وبسبب التمدد الإسمنتي العشوائي في المرج، والمنطقة الصناعية، أصبحت منطقة جنين حاليا تستورد كل شيء، بعد أن كانت تنتج وتصدر القمح والخضار والفاكهة حتى أواسط الثمانينيات.

دور الاحتلال
إن عملية تحويل الأراضي الزراعية الخصبة إلى مناطق صناعية، يستفيد منها أولاً وأخيراً رأس المال الخاص الأجنبي والإسرائيلي، إلى جانب رأس المال الخاص المحلي المتمثل برجال أعمال كبار في البلد، وبعض المسؤولين المتنفذين.  وبهدف تحقيق المصالح الرأسمالية الخاصة، يتم التحايل بوسائل مختلفة، بما في ذلك الاستقواء بالاحتلال لاستملاك قطع أراض، من خلال طلب السلطة الفلسطينية من سلطات الاحتلال استملاك تلك الأراضي في منطقة مرج ابن عامر في جنين، على سبيل المثال، لصالح المنطقة الصناعية، بسبب رفض أصحابها الفلسطينيين بيعها.
الاستعانة بالاحتلال، لا تتم فقط في المناطق الصناعية، بل وفي مجالات اقتصادية أخرى.  فبهدف إنشاء مكب للنفايات على أراضي قرية رمون الواقعة شمال شرق مدينة رام الله، والذي يتوقع أن تديره شركة خاصة، استملكت السلطة الفلسطينية أراضي المزارعين في رمون عبر سلطات الاحتلال؛ وذلك إثر فشلها في شراء الأراضي مباشرة من القرية.  إضافة إلى حالات استملاك أخرى تمت عن طريق سلطات الاحتلال، كما حدث في محطة التنقية في دير شرف، بذريعة أن هذه هي "الطريقة الوحيدة الممكنة" بعد "استنفاذ كل الجهود"!
وحيث أن عملية الاستثمار وإقامة المشاريع الاقتصادية في الضفة والقطاع تتحكم فيها غالبا عوامل وجهات خارجية غير معنية بالتنمية الإنتاجية، فإن العديد من المشاريع التي أقيمت في السنين الأخيرة لم تكن منسجمة مع عوامل التنمية الأساسية، في إطار رؤية تنموية وطنية شاملة، مثل مدى اعتماد المشروع على موارد وخامات محلية، او انتاجه سلعا أساسية، أو توفيره فرص عمل لقوة العمل المحلية وبالتالي مدى مساهمته في التخفيف من حدة البطالة وتقليص هجرة الرأسمال والأيدي العاملة الفلسطينية، وبالمحصلة مدى خدمة المشروع لعملية التقليل من التبعية للاقتصاد الصهيوني، كتقليص الفجوة بين الإنتاج الفلسطيني وبين استهلاك المنتجات الصهيونية والأجنبية الأخرى، فضلا عن مدى مساهمة المشروع في تنمية وتطوير المنطقة التي سيقام فيها ومدى حمايته للأرض التي سيقام عليها من خطر المصادرة والاستيطان والتهويد.

2014-12-07