الجمعة 9/11/1445 هـ الموافق 17/05/2024 م الساعه (القدس) (غرينتش)
منظومة القيم وواقع الفساد في العراق ( الحلقة السادسة )/ الدكتور طالب الرماحي

دعونا نتصفح تاريخ أهل البيت لنرى مدى ما يتوافر لديهم من مواقف تتعلق بالمناصب الحكومية ، لأن الشيعة على مر العصور لم يُسمح لهم بتقلدها بل الاقتراب منها ، لأنها وفي تلك الأزمان تشكل خطرا على علاقة الفرد بربه ، وما كان أهل البيت سلام الله عليهم يسمحون لأصحابهم وأتباعهم أن يضحوا بآخرتهم من أجل دنيا زائفة ، وخاصة أنهم يدركون أكثر من غيرهم القيمة الحقيقية للدنيا أمام الحياة الآخرة ، ومن أراد أن يدرك هذه الحقيقة بأوضح صورها فسوف يجد ذلك في كلام سيد البلغاء الإمام علي عليه السلام في نهج البلاغة . فنحن إذا أردنا فعلاً أن نوازن بين حبنا وولائنا لأهل البيت ، وممارسة السياسة كما نفهمها اليوم ، علينا أولا أن نقف على فهم مدرسة أهل البيت للسياسة والتعامل مع الناس في إدارة الدولة والحكم ، لنمهد إلى معرفة المقاصد الدينية التي يسعى المعصوم لتحقيقها من خلال أتباعه ومحبيه في حركتهم الاجتماعية ، وخلق تراكم أخلاقي ، وإننا نحاول العودة إلى ذلك الفهم ، ولايفوتني أن أؤكد أن الفهم الدقيق للحياة والآخرة عند أهل البيت ، ولعلاقة الفرد بربه ، وصرامتهم في أهمية التقيد بأدق أحكام العقيدة ، هو الذي عزلهم عن الأمة بل أبعد الأمة عنهم ، وقد ذكر ذلك الإمام علي عليه السلام بقوله : إنّ أمرنا صعب مستصعب لا يحتمله إلاّ ملك مقرّب ، أو نبيّ مرسل ، أو عبد قد امتحن الله قلبه للايمان .
وإذا أردنا أن ندقق في حقيقة ما أخذ الشيعة من تراث أهل البيت في ما يتعلق بالاصلاحات وبمنظومة القيم التي تركوها  لنا  في تراثهم الفكري الكبير من أحاديث وأدعية وخطب وسيرة ، نجد أن الأمة قد فشلت في توظيف ذلك التراث الإلهي في ( كتابة نظرية محددة المعالم ) تمهد لبناء مجتمع صالح بعيد عن الفساد ، نعم لم يتوقف علماء الأمة في نقل ذلك التراث بين الأجيال ، لكنهم أخفقوا أيضاً في خلق ( آلية ما ) للإستفادة منه ميدانيا ، وما يعيشه الشعب العراقي اليوم من غياب المنظومة الإخلاقية وانحدار المجتمع في منزلق خطير من فوضى الفساد المادي والاجتماعي دليل على غياب ( المشروع الإخلاقي ) الذي أراده أهل البيت عليهم السلام ، وهذا ما يدعونا إلى البحث عن كيفية إحياء مشروع قيمي أخلاقي ينسجم والظروف الحالية المتردية للأمة .
فقد ثبت أن السياسة لادين لها ، وهذا يعني أنها لامبدأ ولا أخلاق تحكمها ، فهي تلهث بأصحابها وراء مصالحها ، وتغمض عينيها عما دون ذلك ، ولعل هذه الخصلة الشيطانية هي التي دفعت أهل البيت عليهم السلام جميعاً أن ينأوا بأصحابهم بعيدا عن معتركها الملوث الذي نشر الفساد في طول الدنيا وعرضها . وفظلوا عليهم السلام أن يظلوا محكومين مع سلامة الدين على أن يكونوا حاكمين في دنيا لوثها الحاكمون من قبلهم ولم يعد في مقدور أحد مهما كان تقيا أن يعود بها إلى زمن الرسول الكريم ، إلا الإمام الحجة المنتظر الذي ادَّخره خالق الكون ليصلح ما أفسده السابقون على طول وعرض هذه الحياة .
ولعل من المفيد أن نسوق مثالاً لذلك وهو أن الإمام الرضا عليه السلام ، وكان وليا لعهد المأمون لم نسمع أنه فتح الأبواب للمقربين من شيعته في تقلد أي منصب في الدولة ، مع أنه قادر على فعل ذلك ، بل أغلق ذلك الباب قبل أن يتولى ولاية العهد ، حيث اشترط على المأمون في قبول الولاية : ( ان لا يعين و لا يعزل و لا يقضي ) ، كان درسا بليغا من الإمام الرضا لشيعته ولأي مسلم وهو : أن المنصب في ظل حكم غير المعصوم هو فخ دنيوي لا تحمد عاقبته .
ثمة سؤال لابد وأن يتبادر إلى الأذهان وهو : مع توفر الفرصة للشيعة في المشاركة في إدارة بلد كالعراق مثلاً ، كيف نوفق بين ما ذهبت إليه مدرسة أهل البيت في الزهد بوظائف الدولة وبين الحاجة الملحة للمشاركة في إدارتها ؟ فمن غير المعقول أن نستورد من يقوم بهذه المهام الأساسية من خارج المجتمع .
قبل مناقشة هذا السؤوال علينا أن نسلّم لحقيقة ، يتفق عليها العقلاء جميعاً ، وهي أن النظم بعد وفاة النبي وقبل إقامة دولة العدل الإلهي الموعودة ، هي نظم وضعية ، ولا حضورللشريعة إلا بجزء يسير من قوانينها ، بل من الصعب العودة بها إلى ما كان عليه زمن النبي صلى الله عليه وآله ، وذلك لأن الفكر الإنساني تدخل بقوة في صياغة القوانين التي تنظم له الحياة بعيدا عن ( الكتاب والعترة ) ، وهذه الحقيقة قد أدركها الإمام علي عليه السلام عندما جاءه المسلمون يطلبون توليه الأمر بعد مقتل عثمان ، لقد رفض العرض إلا أن إصرار القوم وتكالبهم على بيته حمله مسؤولية القبول ، قال عليه السلام : لولا حضور الحاضر وقيام الحجة بوجود الناصر، وما أخذ الله على العلماء ألا يقاروا على كظة ظالم ولا سغب مظلوم ، لألقيت حبلها على غاربها ولسقيت آخرها بكأس أولها ، ولألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنـز) . لأنه كان يدرك بشكل قاطع أنه لايستطيع أن يغير من الواقع  الموغل في الانحراف شيئا ، وهذا ما حصل بالفعل .
إذن ثمة إعراض من قبل أهل البيت في المشاركة أو إدارة نظم وضعية وقد ظهر ذلك واضحا في تجربة الإمام علي عليه السلام وحفيده الإمام الرضا ، وهذه إشارة واضحة من أن المسلم إذا لم يكن في وسعه الحكم وفق الشريعة الصحيحة فأولى به أن يبتعد ، لأن المشاركة في إدارة النظم الوضعية تقود حتما إلى الظلم وقرائنه ( فساد - سرقة المال العام – تقصير في أداء الواجبات .. وغيرها ) وهذا عين ما نراه حاصلاً في العراق اليوم ومن قبل رموز شيعية تمتلك مواقع اجتماعية وسياسية معروفة ، والحقيقة هذه صدح بها القرآن الكريم : ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ) ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون ) ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون ) ، والله لم يستثن في قانونه فئة من عباده ، وهذا يعني أن كل الأحزاب والكتل الشيعية تدخل ضمن هذا القانون الإلهي ، فهل حكم الحزب الشيعي في العراق بما أنزل الله ؟ أم أن واقع الحال لم يزل زاخراً كما نسمع ونرى ( بالكفر في النعم وبالظلم مع كثير من الفسق ) .
حقيقة أخرى وردت في القرآن الكريم علينا أن نشير إليها ، فلها علاقة مباشرة بطبيعة سلوك المؤمنين ، وعلاقتهم بسنة ( الفتنة والاختبار ) ، يقول الله تعالى في سورة آل عمران  179 : ( مَا كان اللهُ ليذرَ المؤمنينَ على مَا أنتم عليه حتى يَميزَ الخبيثَ من الطيب ) ، والمناصب التي تقلدها الكثيرون من الشيعة وخاصة في المناصب العليا والدرجات الخاصة ، بعد التغيير هي اختبارات إلهية ، والنتائج التي خلصنا إليها خلال السنوات التسع الماضية لم تدلنا على شخص واحد من منتسبي الأحزاب الشيعية التي شغلت المناصب الكبيرة في الدولة مارس دوره ضمن حدود الشريعة والدين والحد الأدنى من القيم والمباديء التي رسمها لنا أهل البيت عليهم السلام ، فهم إما ( ظالم ) أو ساكت عن الظلم ، فالمجتمع ما زال يئن من التصرفات غير الشرعية للمسؤولين ،  وفي ظلهم أصبح المجتمع واحة يكثر فيها الفساد الإداري والمالي وكل ما يرفضه العقل من الممارسات الأنانية التي تشجع على استغلال قضم حقوق الفقراء والمعدمين ، لقد ترك هؤلاء مجتمعهم لوحده وانشغلوا في بناء ممالك شخصية في داخل العراق أو خارجه ، لقد ميز الله ( المدعين ) بالإيمان والإخلاص للأمة ، وتبين أن لا وجود ( للطيب ) من بين كل من شارك في إدارة الدولة ، فهم إما أنهم مارسوا ( الفساد ) بشكل مباشر أو أنهم عجزوا عن دفع الفساد بعيدا عن الدوائر التي يشرفون عليها ، وفي كلتا الحالتين ، يكون مسؤولاً عما يلحق بالأمة من ضرر  مادي أو معنوي .
لانعتقد بجواز من يشكل على المجتمع العراقي ويبرر للمسؤولين الكبار فشلهم وجشعهم ، بذريعة أن الأمة قد اختارتهم ضمن عملية انتخابية دستورية ، ويمكن دفع هذا الإشكال لسبب هو أن الأمة لم تزل بعيدة عن الفهم الحقيقي لطبيعة الديمقراطية وآلياتها لتفشي الجهل ، كما أن الظروف الانتخابية والاجتماعية تدفع الفرد للمشاركة في الانتخابات ، وفي الوقت ذاته فإن تلك الظروف لاتساعد الناخب على أختيار الأصلح ، وقد تطرقنا لهذا الأمر عندما تكلمنا عن ظروف ولادة ( البيت الشيعي واختيار أول برلمان وطني ) ، حيث كان الغالب في ذلك الوقت  هو التحايل على عقلية الناخب ( طائفيا ) و ( ماديا ) .
إذن نحن أمام ( تحد كبير ) يواجه المجتمع العراقي  في الوقت الحاضر ، هو غياب قادة محليين يكون في وسعهم كبح جماح غرائزهم التي تتوق لاستغلال المناصب والاستحواذ على المنافع الشخصية والحزبية على حساب مصالح الأمة .
إذن يمكن لنا أن نقر بالنتائج التالية جوابا على ما أوردناه من سؤال : أولاً – إن المجتمع لابد وأن يفرز من بينه من يدير شؤونه  في نطاق المؤسسات الحكومية  ، وينبغي أن يتوفر في سلوك من يتقدم لتلك المسؤولية الحد الأدنى من القيم والمباديء الإسلامية والإنسانية ، بناءا على ما فهمناه من تراث أهل البيت وتاريخهم وسيرتهم ، وإن الله لن يترك أحدا من عباده دون أن يختبر إيمانه وقدرته على حفظ وصيانة المصالح العامة . ثانياً : أن الأمة لم تنجح في اختيار رجال دولة مصلحين يحملون همومها ويسعون للعمل على أنقاذها ، وغياب مثل هؤلاء أضاع عليها فرصة النهوض بالواقع المرير ، بل كرس ذلك الواقع مما أضر كثيرا بحاضرنا ومستقبلنا ... للبحث صلة إنشاء الله

2012-11-11