السبت 18/10/1445 هـ الموافق 27/04/2024 م الساعه (القدس) (غرينتش)
حيفا على لسان أبنائها محطات تاريخية، حضارية وإنسانية في حيفا "الوثيقة الأولى".... د. روزلاند كريم دعيم

حيفا

 

الوثيقة الأولى: 

جميلة خليل نخلة نابلسي - جهشان، 1939، حارة الكنايس، بالقرب من ساحة الحناطير، حيفا.

تمّ التسجيل في تشرين الثاني 1999.

راويتنا الجميلة هي خالتي شقيقة أمي.

كعادتي، حين البدء بعمل جديد أحتار وأتخبط حتى أمسك بطرف البداية. وحين كنت متحرِّجة من "الدّق" على أبواب أهلي سكان حيفا توجهت إلى خالتي لأوثِّق ما سمعت منها ومن خالي نخلة رحمه الله منذ طفولتي. حين رأت خالتي عدّة التسجيل تردّدت وتعاملت مع أحاديثها التلقائية بجدّية فائقة، إلى أن انسجمنا في الكلام واسترسلت في الوصف، حتى أنّها أهدتني بعضًا من كتاباتها الخاصة في وصف حيفا القديمة، سنوردها في وثيقة مستقلة. 

وحين عقدت العزم على نشر ما جمعت من وثائق شفوية، كانت الجميلة خالتي قد بدأت بنشر ذكرياتها، بلغتها وأسلوبها الجميل، مما أضفى لمادتها قيمة مضافة؛ إذ أني قد جمعت وثائقي بالعامية المحكية وهي تشكل بذلك مادة خام غنية لدراسة ملامح مدينة حيفا اللغوية، ولكنها وضعت كاتبة هذه السطور أمام تحدٍّ من نوع آخر، ألا وهو التدخل في تحويل المواد من المحكية إلى الفصيحة.

قالت:

حارة الكنايس (الكنائس)

كنا نسكن في حارة الكنايس مسيحيون ومسلمون، نعيش بمحبة ووئام كعائلة واحدة.

دار السلال (مالك البيت غالبًا)، دار عازر غنطوس (مالك البيت)، خلف الكنيسة؛ بعدها توجد طريق من الجهة اليمنى إلى بيتنا أي دار أهلي خليل نخلة نابلسي دار الأبيض الملاصقة له، التي صارت كنيس لليهود المغاربة "عيدن" [الباحثة: الكنيس عيدن مخصص لليهود القادمين من تونس، الذين قدموا إلى البلاد في بداية الخمسينيات من القرن الماضي، أي ما يتزامن مع تهجير الحي. تم إغلاق الجمعية المشرفة عليه. تفيد الوسائل الإلكترونية العبرانية على أنه كنيس أثري منذ مائتي عام إلا أن السكان الذين يحفظون ذاكرة المكان لهم قول آخر، وهو الأصدق والأكثر دقة. وقد قامت المهندسة المعمارية الفنانة سعاد نصر مخول برسم الكنيس من الخارج، واللوحة معروضة في جاليري حيفا، شارع الوادي 41، في موقع جميل كان بأساسه مطحنة قمح، ثم تحول إلى منجرة، واليوم هو جاليري حضاري يوثق لإرثنا وذاكرتنا الجمعية. أما عن قول خالتي الغالية بأن الكنيس تم تخصيصه للمغاربة، فربما يكون ذلك بسبب قرب المكان الجغرافي بين المغرب وتونس، فكان الخلط بين القادمين من هذين البلدين].
يتبع: أبو سركيس الأرمني، عيسى حماد، أبو راحيل وأستر، صاحبة الدار التي كنا نسكن بها نزلة بوبزيان وأخوها أرطين بوبزيان.

بالمقابل دار الأزهري، دار الماضي، أبو إبراهيم حايك صاحب الدكان، محمود بياع البوظة، أبو صبحي، أبو عيد، خليل الخوري، دار مهنا، أم اسكندر البهو، حنا كيّاتو، دار الرومي (دار أخو حماتي)، توما من أصل روسي، دار محمدين. بجنبهم خيات تنتين متيل ونهيل طوبي...

مقابل فرن شعبان بيت ودكان أبو رحمة ولهم دكان آخر مقابل بيتهم، وبيت إضافي وينتهي الشارع عند سعيد الفوّال يعني سعيد جانا. من سعيد جانا طلعة ودرج ستانتون اليوم هو "شيفات تسيون" (أي عودة صهيون). كان في الحي أيضًا مريم سويد ودار الجدع وانتقلوا إلى الواد.

في الهجيج هجّ دار حماد إلى عكا وكانوا يزوروننا من فترة لأخرى ويبقون عندنا أسبوعًا أو اثنين.

أذكر مدرسة الروم التي كانت ملاصقة لكنيسة الروم الأرثوذكس القديمة، على نفس الأرض في شارع بال يام اليوم، وكانت بها ساحة للكبار وساحة للصغار. 

وتحت كنيسة الروم بوابة الحديد، ومقابل الكنيسة معمل الشوكولاطة لأصحابه الشوام، الذي كنا نشتري منه "ملبس ع لوز" ومحليات. خلفه كان "سوق الشوام" المشهور كثير الخيرات. أتذكر فرن شعبان وفرن شحادة وسعيد الفوّال أو سعيد جانا، والصايغ المشهور العجمي حيث اشترت لي أمي ولأختي زوجين من الحلق، وخيّاطة العرايس روز كنة أم إبراهيم حايك.

ومحمود بياع البوزة [البوظة: من التركية buz بمعنى ثلج. والعامة تلفظ الظاء زايًا مفخمة، لوباني، العامي والدخيل، 65 – 66] كان ينادي: "حليب وإيما يا بوزة ثلاث ألوان الفورجيته" [قيما: من نداءات بائع البوظة أن يقول إيما أو قيما بحليب، ولفظة قيما تركية الأصل وتعني القشدة وما يُستخرج من اللبن وخلاصة الزبدة، لوباني، العامي والدخيل، 500، والقيمر لفظ يُطلق على القشدة في لفظ أهل الشام، الباحثة؛ الفورجيتة من اللاتينية frigate، أي السفينة الحربية السريعة وتكون أصغر حجمًا من المدمِّرة، أما الألوان فغالبًا هي ألوان علم البلد الذي تتبع إليه هذه السفينة]. 

محمود بياع البوظة التقته لاحقًا جارتنا بدرية زوجة رشدي يونس [والد زميلي د. أحمد يونس] في جنين أو نابلس، بعد حرب الأيام الستة وفتح الطريق إلى الضفة. أرسل معها سلامًا إلى أخته أم نخلة [أي والدة الراوية وجدّة كاتبة الوثيقة]، وحين تفاجأتْ كيف يكون محمود مسلمًا وأخته مسيحية أتاها الجواب أنها أخوّة أهالي حيفا العريقة التي تعالت على المفاهيم الطائفية بكل المعاني. فكان أهلها أسرة واحدة.

[ولم تكن هذه أول مرة يظهر فيها محمود بياع البوظة خارج حيفا، فقد سمعتْ كاتبة الوثيقة من ابن عمها، وعلى وجه الدقة، ابن عم أمها وخالتها توفيق إبراهيم نابلسي، الذي وُلد في حارة الكنايس أيضًا، أنه التقى محمود يبيع البوظة في صور سنوات قليلة بعد النكبة، أي قبل أن يعود إلى فلسطين وكان توفيق طفلًا صغيرًا يوم النكبة، إلا أنه عرف محمود وتذكره ومحمود عرفه أيضًا].

أما ماري غوروس فكانت تبيع "البالوظة". و"البالوظة" سميد معقود تسكبه ماري غوروس في "سِدر كبير" [صِدْر: وعاء واسع مستدير، من معدن أن قش. يًقال صدر كافة، صدر بقلاوة، لوباني، الألفاظ التراثية، 266]، وتلونه بخطوط ملونة من الشراب. نشتري منها قطعة بالوظة تقدّمها لنا في صحن قهوة وملعقة صغيرة. كل أولاد الحارة كانت تشتري من ماري غوروس.

جيراننا دار محمدين... 

كنت أسمع من حياة أمي أن بنت محمدين اختفت حين كانت في السادسة أو السابعة من عمرها. كان خالها شرطيًّا فبدأ يراقب النَّوَر الذين كانت من عادتهم سرقة الأولاد.

في إحدى المرات وجد ابنة أخته بين جماعة النَّوَر في القطار، فحقّق معها ومع عائلتها الجديدة وتعرّف عليها واستعادها، وتم استقبالها في حارة الكنايس باحتفال كبير.

كانت قد تطَبَّعتْ من عادات النَّوَر وكانوا "مْدَقِدْقينْها" بالوشم. 

زوّجوها لابن عمها، إلا أنّها بقيت "ترطُن" بلهجة النَّوَر كلما غضبت.

دار محمدين أيضًا هجّوا في الهجيج.

بقيت دار محمدين موجودة حتى قبل فترة بسيطة، كنت أميِّزها من شجرة الزنزلخت الضخمة، اليوم الدار مهدومة.

لبيتهم باب إضافي من شارع ستانتون.

 

نعيم العسل

لدكان نعيم العسل طريقان؛ من بيتنا مقاطعة ومن الجهة الثانية قريب من سوق الشوام.

عند نعيم العسل كل شيء.

ما أذكره أنّه كان يبيع العلق لمن يعاني من ضغط الدم. يكون العلق في مرطبان كبير. يشتري منه صاحب الشأن بضع علقات ويضعها على الشرايين المتورمة فتمتص الدماء. بعد ذلك تتم إعادة العلق إلى المرطبان ليجوع ويعيدون الكرة.

حلمي بَسْطَة

كان حلمي بسطة ضابط مصري يخدم في الجيش الإنجليزي وكان يقول: "حاضرَبْ فلسطين بجزمِتي" فقتله الثُّوّار. ونقلت جثّته حكومة الإنجليز إلى مصر في القطار ووضعوه في مقطورة "فاجون" بضائع. وفي عودته كانت تولول زوجته "هذه آخرتك "فاكون بضائع؟" بدل أن تعود لأولادك معزّزًا مكرّمًا!" 

 

من المناوشات إلى الهجيج

كنا نسكن الطابق الأرضي لعمارة مكونة من طابقين بجانب كنيسة السيدة للروم الملكيين –الكاثوليك (بيت النعمة اليوم)، شباك بيتنا يطل على ساحة الكنيسة. وحتى الآن يمكن رؤية شباك بيتنا، وهو ملاصق لبيت الأبيض الذي أصبح لاحقًا كنيس عيدن.

وقت غارة الألمان على المستعمرات الإنجليزية كان والدي يخرجنا من شبّاك البيت إلى ساحة الكنيسة، ومنها من خلال الشباك إلى الكنيسة حتى تنتهي الغارة ثم يعيدنا الى البيت بنفس الطريقة. كنا نرى الطائرات خلال الغارة.

وكنا نسمع عن الاضطرابات والإضرابات والغازات الخانقة والعسكر الإنجليزي والتفتيش والثوار... وكنا نجمع الفشك من الشارع. بعد ذلك بدأت المناوشات بين العرب واليهود، عمل أولاد الحارة فرقة يهود وفرقة عرب. وفي مرة كنت رايحة أخبز ضربني على رجلي ونزل الدم، وما زالت العلامة على رجلي. 

مقابلنا على الدرج بين حارة الكنائس وشارع ستانتون كانت تسكن زهرية أم محمد وأولادها [ولها مع الراوية حكاية أخرى].

وقت الهجيج معظم سكان حارة الكنايس هجّوا. بقي بعضهم في الكنيسة مثل دار اللحام الذين كانوا يسكنون في حي الهدار وحضروا في المناوشات إلى الكنيسة، ودار أبو خضرة الذين كانوا في الأصل من سكان حارة الكنايس. وفي بيوتهم بقي في الحي الذي خلفنا دار الحاج البشناقي، حكمات، أم علي استيتيه وأصلها من نابلس كان عندها دكان في سوق الشوام، دار عزام وأم دعيبس كانت ضريرة وكانت تسكن مقابل مدرسة الروم. كانت تكسِّر خشب عشان تولع نار. كانت أمي تشفق عليها فترسل معنا خبزًا لها. نهيل ومتيل طوبي عمتا أبو اسكندر البهو بقيتا في الحارة بينما هجّت أم اسكندر إلى الناصرة وعادت بعد ذلك وسكنت معهما في الواد. 

عز الدين القسام... ما صمتت عنه الوثائق الرسمية

كنا نسمع من أهلنا عن الشيخ عز الدين... كان جار أهلي في شارع الناصرة أ وادي روشميا أو وادي الصليب قبل أن أولد. لم يعرفوا ما عمله بالضبط ولكنهم عرفوا أنه شيخ محترم. في أحد الأيام قرع باب بيتنا ضابط إنجليزي وطلب من أبي أن يتعرّف على جثة شخص ما.

تعرف والدي على جثة الشيخ عز الدين القسام.

طلب منه الضابط أن يدخل إلى بيت القسام، فأخبر والدي جاره كامل بالأمر وطلب منه أن تدخل زوجته مع والدتي لتبلغا ابنته بالأمر. ابنته "مَيْمَنة" كانت معلمة ولم تكن تختلط بالجيران.

عندما دخلت أمي وزوجة كامل إليها وقبل أن تقولا شيئًا قالت لهما: أعرف، والدي قُتِل.

عندها أدخلوا جثّته إلى البيت وعرف الجيران...

والدي وقف على جسر رشميا ساعة "حَلّة العمال" ليخبرهم في طريق عودتهم من العمل أن الشيخ عز الدين مات، وصارت له جنازة مهيبة وكان والدي من الذين حملوه إلى مثواه. كنت أسمع القصة من أهلي إلا أن أخي نخلة حدثني بأهميته لاحقًا حين كبرنا. [الشيخ عز الدين القسام (1883 – 1935)، وصل إلى حيفا عام 1920 وتولى الخطابة في مسجد الاستقلال حين تم بناؤه عام 1925. ترك حيفا للمقاومة في أواخر تشرين الأول عام 1935، وكان استشهاده في 20.11.1935. كان تأبينه في جامع النصر الكبير (الجرينة) الساعة العاشرة صباحًا ودفن في مقبرة بلد الشيخ التي عرفت باسمه لاحقًا. ورد اسم ابنته مَيمنة في أكثر من وثيقة شفوية جمعتها الباحثة. كانت ميمنة مناضلة وتوفيت في الأردن عام 2004].

 

المعتقل

خرج أبي من البيت ليبحث عمّن بقي في حيفا ومن هجّ، ولكنّه لم يرجع فخرج أخي نخلة، وكان عمره 13 سنة، ليبحث عنه ولم يرجع هو أيضًا.

بالرغم من قلق والدتي على زوجها وابنها، إلا أنّها أشفقت على الناس الهاجّين فعجنت لجن عجين خبز "رْقاق" كبيرًا في ساحة الدار وكانت تخبز على الموقدة والرصاص فوق رأسها. وبدأت ترزم الخبز وتوزّعه على الهاجّين ليأكلوا في الطريق.

حين ازداد قلق والدتي خرجت مع أخي الصغير وجدّتي "جميلة جهشان" للبحث بين القتلى عنهما، وصوّرها جنود الهجناه مع أخي إبراهيم وأختي إيلين [تظهر جدة الباحثة والدة الراوية في الفيلم:https://m.facebook.com/story.php?story_fbid=pfbid0t7Gh14W3vWgFPYKZugyB6LLSwT7ZeAEFW4a8pqP2aXWdWKR2rUS6QrnFgSbt3xmRl&id=100000036075669].

بعد خمسة أيام حضرت إلينا زوجة ديب جورج خوري الذي كان في المعتقل وقالت لنا خليل نخلة (أي والدي واسم عائلته) في المعتقل بدل أن تقول خليل ونخلة (أي والدي وأخي)، ولكنهم حرّروا أخي نخلة بنفس اليوم لأنه كان صغيرًا وأخبرنا أن والدي في المعتقل.

وخرج والدي بعد ذلك بيومين، أي بعد أن قضى أسبوعًا في المعتقل، إلا أنه لم يسترجع الساعة والخاتم والنقود (80 ليرة فلسطيني) التي كانت بحوزته حين اعتُقل والتي أُخِذت منه حين اعتقاله.

ومن حديثهما عن الرعب في المعتقل أنه كل يوم كان جندي يدخل ويختار بعض المعتَقَلين، يأخذهم خارجًا ويسمعون بعدها صوت رصاص.

ومن القصص التي سمعتها من خالي نخلة أن أحدهم أبعد شخصًا كان يجلس على الطاولة ليجلس مكانه، وحين دخل الجندي اختاره – بالصدفة – ليتم إعدامه رميًا بالرصاص، فنجا الشخص المُعتدى عليه.

الخياط

بعد ذلك خرج أبي وأخي نخلة وديب جورج خوري، بحسب أمر الهَجَنا (hagana) [أي منظمة الدفاع الصهيونية التي تم تأسيسها عام 1921]، لجمع جثث القتلى وكان عددها 68 جثة، بعد أن صُرِعت القطط والكلاب من تناولها اللحوم البشرية، وأخذت الهجاناه الجثث إلى حيث لا ندري.

ومن القصص التي سمعناها أن سيدة، اسمها أم ناجي من شارع ستانتون، كانت ترضع ابنها حين أصابتها رصاصة فقتلتها وبقي ابنها يرضع، وبقيت على هذا الحال ساعات.

 

بعد الاحتلال

حضر جنود الهَجَنا (hagana) مع أمر إخلاء حارة الكنايس نهائيًّا وطلبوا من المسيحيين الانتقال إلى وادي النسناس والمسلمين إلى وادي الصليب، إلا أن الناس لم توافق على ذلك وانتقلوا جميعهم إلى الواد، أي وادي النسناس. وكنّا أوّل عائلة تنتقل إلى الواد وكان ذلك بعد شهرين من الاحتلال.

كان في الواد [في القسم السفلي منه حتى الوادي 40] من سكّانه الأصليين عائلة منصور والحاج خضير رفاعي، ودار أم حنا قبعين [دار جدة زوجة خالي].

سكنّا في الواد، في دار كانت لدار الأسود، مقابل دار باكير التي هجّ أصحابها، وسكن فيها لاحقًا زكي الصلح، بجانب قهوة "أبو حنا" وساعده والدي على تنزيل عفشه وأثاث منزله. 

حين سكنّا في الواد سقطت الطيرة، إذ أن الطيرة قاومت بعد سقوط حيفا.

كان بشكل دائم منع تجول وتفتيش على المتسللين، ليس فقط المتسللين الذين يحضرون من لبنان، بل الذين يحضرون من الناصرة أيضًا.

في الواد كان جيراننا دار الصاوي من وادي الصليب سكنوا تحت بيتنا، كانت الأم كسيحة وسكنت مع ابنتها، وسكنت أيضًا وداد فرح مقابل فلافل نجلاء. 

 

أبو مْديرِس

حتى أبو مديرس كان في حارة الكنايس وأحضروه إلى الواد.

أبو مديرس انجن عندما كان عمره 35 سنة. كان يدق على بيتنا فأعطيه ماء أو طعامًا، وفي مرّة أشفق عليه أبي وأخي فحمّماه وحلقا له وألبساه ملابس جديدة. كان أبو مديرس يلبس في الرجل الواحدة حذاء وفي الأخرى جزمة.

حين كنا في حارة الكنايس كان يقف بالقرب من الفوال بالليل يغني وكان صوته عذبًا. 

كان يأتي إلينا ويقول جميلة أنطيه مي، أنطيه خبزه وبصل... ولكن نحن كنا نعطيه من كل ما لدينا.

أكل ما نقصنا كنا نشتري.

بيّن معاه، حفظ المعروف. 

مرة حين كنا في حارة الكنايس راح على دكان كنادر وجد فاترينا (واجهة) مفتوحة، جمع كل الكنادر كل فردة شكل وجابها بشوال، يريد أن يكافأني. قلت له: بنفعش، بكرا برجعوا أصحابهم، حتى يلاقوهم. فقال: هذا قبقاب أسود خليلك إياه وأعاد الباقي.

وفي مرة من المرات لم نجده.

 

بديعة المجنونة

كانت أيضًا بديعة المجنونة وكانت حسنة الهيئة. أخذوها مرّة إلى الملجأ فعادت تقول: "قوت ولا تموت تَبِّتْ ولا تقع"، لوصف الشحّ والقلة في الملجأ.

قال الذين يعرفونها قبل الاحتلال إنه كان لديها زوج أو صاحب سيطر عليها، يرسلها تتسوّل وتعطيه النقود.

حين مرضت برماد العينين رعاها الدكتور بيخار (من أصل إنجليزي) وزوجته العاملة الاجتماعية المسّ بيخار.

بعد أن سكنّا في الواد نزل الناس المحتمون من دير مار إلياس [لم يهاجر جميع سكان حيفا عبر البحر، إذ أن بعضهم كان قد احتمى في دير مار إلياس للرهبان الكرمليين وبعضهم هاجر إلى البلدان المجاورة]، ورجع بعض المهاجرين في داخل الوطن من القرى والمدن العربية إلى حيفا، وحضر بعض المهَجَّرين من الطيرة وقرى قضاء حيفا، وعاد بعض المتسلّلين من لبنان، وكان لمّ شمل أحيانًا وهكذا امتلأ الواد بالسكان.

حي السوق أي شارع مار يوحنا الموازي لشارع وادي النسناس كان حي سكن فيه منازل ولم يكن سوق هناك.

 

كلمة أخيرة بعد الوثيقة الشفوية:

يبقى الواد مكانه وإن تغيّر معظم سكّانه، يبقى نسيجًا إنسانيًّا رائعًا. وكما كان جدّي "أبو نخلة" آخر من ترك حارة الكنائس وأوّل من سكن وادي النسناس (رقم 25)، فقد هُدِمت دار جدّي، والد الراوية، بين الدور الثلاث الأولى التي هُدِمت في الواد، ليحل مكانها موقف سيارات.  

راجع أيضًا

https://www.alwasattoday.com/site-sections/78310.html

 

2022-07-16