الجمعة 17/10/1445 هـ الموافق 26/04/2024 م الساعه (القدس) (غرينتش)
علي الوردي : (3) المنطق الأرسطي اعتمده رجال الدين فأسهم في ازدواجية المواطن العراقي / د. حسين سرمك حسن

كان من المتوقّع من العلّامة الراحل علي الوردي في كتابه الثاني : ( خوارق اللاشعور ) ، أن تكون المساحة المتاحة لتناول الفكر الديني والتاريخ الإسلامي محدودة لأن موضوع الكتاب علمي : القوى الخارقة لدى الإنسان ( الخارقية أو الباراسيكولوجيا ) ، ولكن الوردي ، وفي مواضع كثيرة يتطرّق للدين ولرجال الدين بالصيغة العامة السابقة التي طرحها في ( شخصية الفرد العراقي ) ، بل وبصورة أكثر حدّة ومن خلال مقتربات مثيرة . ففي مقدمة الكتاب يقول بأنه قد وصل ببحثه هذا إلى نتيجة تعاكس جميع ما دأب المعلمون والكتاب والخطباء في هذه البلاد أن يلقنونا إياه ، ( فهم قد وعظونا وعلمونا على أن ( من جد وجد ) .. وأن مستقبل الفرد بيده إذ هو يستطيع أن يصنع نفسه حسب ما يشاء بحزمه وإرادته وسعيه واجتهاده ... وأود أن أصارح القاريء بأني كنت في أيام شبابي ضحية من ضحايا هذا المبدأ السخيف ، مبدأ ( من جد وجد ) ..)(8) .
لقد اختار مقتربا شكلته قاعدة إسلامية هي من المسلمات في عقل المواطن ، ومرّره بهدوء ليبني الموقف الإيجابي كما يتصوره على تأثيرات القاعدة السلبية السابقة. لكن طريقة تناول الوردي ونبرة لهجته تتصاعد مع تلاحق الفصول ؛ ففي الفصل الأول : الإطار الفكري ، يطرح ، من بين قضايا ومفاهيم كثيرة ، موضوعة أن النزاع بين البشر ظاهرة اجتماعية ثابتة ، فيشير إلى أن التاريخ قد دلّ على أن كل دين ، مهما كان نوعه ، لا يكاد ينتشر حتى ينشق على نفسه ، أي أنه لا يكاد ينتصر وينجح حتى تظهر فيه الفرق المتطاحنة والشيع المتنابذة  ويرى أن من الأخطاء التي يقع فيها المؤرخون هو أنهم يعزون سبب هذا النزاع والانشقاق في دين من الأديان إلى فلان أو فلان من شخصيات التاريخ ، ويأخذون بذمّه على اعتبار أنه قد فرّق الأمة ، وشق عصا الجماعة ( وهذا محور مركزي سيواصله في كتابيه اللاحقين وعاظ السلاطين ومهزلة العقل البشري ) ، في حين أن التفرقة طبيعة لازبة من طبائع العقل البشري ، والتفرقة لا تبدأ عادة إلا بعد النصر لأن نزاع المصالح يأخذ عند ذلك بالظهور ( وهذا محور مركزي آخر سيتناوله في الكتابين المذكورين ) . فالجماعة تكون في فترة الكفاح الأولى متكتلة لا اختلاف فيها لأن مصلحة الفرد ومصلحة المجموع تكون آنذاك واحدة . أما حين يبدأ النصر وتنهال الغنائم ، وحين يُترف بضعة أفراد على حساب الآخرين ، تجد غول التفرقة قد أخذ يكشّر عن أنيابه )(9).
ومن هذه الفرضيات العامة يقترب من الدين الإسلامي كأنموذج تطبيقي فيقول :
( حين ندرس تاريخ الإسلام نرى فيه مصداق هذا الأمر جليا . ولعل الانشقاق قد ظهر في الإسلام أسرع مما ظهر في غيره من الأديان . وكأن ذلك نشأ من السرعة الهائلة التي نجحت بها دعوة الإسلام، وانتشرت فتوحاته في أقاصي الأرض ) (10) .
ويطرح الفكرة السابقة التي ترى أن الخلافة كانت المنبع الرئيس لجميع أنواع الفرق الانشقاقية في الإسلام ولكنه يوسّع النظرة إلى فعلها، من الخلاف المذهبي الضيق إلى ما تمثله من إغراءات وسبل إشباع للنفس البشرية :
( .. فالخلافة في أول أمرها عندما كانت زهدا وتقوى وخشونة كان الخلاف عليها ضعيفا جدا يكاد لا يشعر به أحد . أما حين بدأ الترف يأخذ مأخذه فيها وحفت بها الأبهة وشاعت فيها شتى اللذات ، فقد تحرقت الأنفس نحوها ، وأخذت العقول تنشيء المذاهب الفكرية والفرق الدينية في سبيل الظفر بها ) (11) .
أما في الفصل الثاني فإنه يطرح أمرا فريدا يتمثل في العودة إلى طرح موضوعة الازدواجية في شخصية رجال الدين أنفسهم وفي الفكر الديني نفسه ولكن من خلال عامل آخر جديد يتمثل في "المنطق الأرسطي" الذي يجري عليه رجال الدين في تفكيرهم والذي يقوم على أسس قوانينه التفكير الديني عموما . يقول الوردي :
( من الممكن اعتبار منطق أرسطو عاملا هاما في إنتاج ظاهرة ازدواج الشخصية ، إذ هو يعوّد الفرد على نمط من التفكير يناقض واقع الحياة وبذا يجعله منشقا على نفسه . فهو يفكر على طراز ويعمل على طراز آخر )(12) .
فالوردي يرى أن منطق أرسطو هو منطق الأبراج العاجية وليس منطق الحياة بتناقضاتها وتضارب معطياتها ، ولذلك نجده قد عزل المفكرين عن واقع الحياة وصعد بهم إلى السحاب . ويتضح هذا حين ندرس قوانين الفكر التي يستند إليها هذا المنطق في أقيسته ، فهي قوانين تناقض قوانين الواقع تناقضا كبيرا . ولذلك نجد المناطقة مبتلين بداء ازدواج الشخصية ، فهم يتجادلون ويكتبون ويخطبون حسب منطق أرسطو ، لكنهم يطلبون الرزق أو الجاه أو المنصب حسب منطق الواقع . وينتقل الوردي إلى مجال الدين والتاريخ الإسلاميين فيقول :
( ومما يؤسف له أن نجد التفكير الديني أصبح مزدوجا أيضا ، وذلك من جراء امتزاجه بالمنطق القديم واستناده في كثير من أموره على قوانين الفكر العاجية ، فترى رجل الدين مثلا لا ينكر على الأغنياء أو رجال الدولة حين يظلمون الناس من جهة ثم يشيدون المساجد من الجهة الأخرى ، وكأنه يحسب ذلك منهم أمرا طبيعيا لا ضير فيه . وقد أخبرنا التاريخ عن كثير من الخلفاء والأمراء أنهم كانوا ينفقون أموال الأمة على شراء الجواري وبناء القصور الباذخة ، حتى إذا جاءهم الواعظ يذكرهم بعذاب الله أغرورقت أعينهم بالدموع وأكثروا من الصوم والصلاة ... ولا تزال بقية من هذا الازدواج باقية في رجال الدين في هذا العصر . فهم يحترمون الظالمين فعلا ثم يذمون أعمالهم على المنابر ... إن الذي يفكر تفكيرا أرسطوطاليسيا ، سواء أكان من رجال الدين أو من غيرهم ، قد يحكم في الأمور استنادا إلى أقيسته المنطقية التي آمن بها إيمانا قويا ، ولكن الأمور تسير حسب قوانين مناقضة لهذه الأقيسة .. على هذا المنوال حارب رجال الدين الزي الحديث من الملابس وحاربوا سفور المرأة ) (13) .
أما الفصول الثلاثة الباقية وكلمة الختام ففيها إشارات هامة جدا . ففي الفصل الثالث : الإرادة والنجاح ، إشارة إلى عيب البرهان المنطقي (الأرسطي) الذي يحاكي عقل الإنسان الظاهر ، في حين أن العقائد والسلوكيات الثابتة تترسخ في العقل الباطن :
( إن عيب البرهان المنطقي أنه لا يستطيع أن ينمي في النفس عقيدة. فالعقيدة بنت الإيحاء والتكرار. ولهذا السبب نجد وعاظنا ومفكرينا لا ينجحون في تبديل أخلاق الناس أو تغيير عقائدهم إلا نادرا، فهم يحاولون دائما أن يقنعوا الناس عن طريق الجدل وإقامة الدليل وما أشبه. هذا بينما الناس يسيرون في أمورهم الفكرية والاجتماعية على أساس ما انطبع في عقولهم الباطنة من أفكار وعادات وقيم ) (14) .
وفي موضع آخر من الفصل نفسه يشير إلى معتقد ديني هام يقول ( أن الأجر على قدر المشقة ) الذي وضعه أئمة العهود السالفة ليشقوا في سبيل الله فينالوا أجره الوافر ، لكن الحياة العملية تتطلب نصيحة تخالف تلك النصيحة التي تقول بأن النجاح على قدر المشقة . فالوردي يرى – منطلقا من آليات العقل الباطن وحسب تصوره عن مكوناته التي تختلف عن وجهة نظر فرويد كما سنرى– أن النجاح يأتي على قدر الهدوء والاسترسال وعدم التكلّف ، وذلك كي نستثمر الومضات المبدعة التي تنبعث من اللاشعور في حياتنا . ثم يبيّن أن المبدأ القديم قد جعل الإسلام دينا يتسم بالصعوبة بخلاف تعليمات رسوله :
( والدين الإسلامي قد اصطبغ بصبغة المشقة في معظم شعائره . لقد قال النبي محمد : ( جئتكم بالشريعة السمحاء ) ، ولكن أتباعه نسوا هذا وجعلوا دينه من أصعب الأديان وأكثرها تعبا ومكابدة ومشقة . فقد جعلوا الطقوس الدينية دقيقة التفاصيل معقدة الأجزاء وهم لا يزالون يتباحثون ويتجادلون لكي يضعوا ضغثا على هذا . وقد أمسى المسلم الذي يريد أن يقوم بالطقوس الدينية حسب الأصول مضطرا أن يترك أعماله لكي يستطيع أن يتفرغ لأفانين الوضوء والطهارة وشرائط الصوم والصلاة ) (15) .
وسبب تعقيد طقوس الدين الإسلامي كما يرى الوردي وتحويل العبادة من طريق لبث الثقة والطمأنينة في قلب الإنسان وتجعله متفائلا في حياته لأن هناك ربّاً يحميه، إلى عبء يثقل كاهل الفرد المؤمن ويعيقه في حياته اليومية ، هو رجال الدين الذين قلّلوا من هذه المنفعة النفسية التي يجنيها الفرد من العبادة حين جعلوها محفوفة بالفروض والشروط الدقيقة ، فجعلوا المؤمن في وضع يراقب فيه نفسه بصورة تسلّطية ، وهو يؤدي طقوسه ، فلا يستطيع أن يتفرّغ بقلبه لدعاء ربّه ، واستمداد العون منه، ذلك لأنه يكون في أثناء العبادة مشغولا بأداء التفاصيل المعقدة التي يخشى أن يفوته شيء منها :
( وقد رأينا من المتعبّدين من يقضي وقتا طويلا في الوضوء لكي يقوم به على وجه الدقة المطلوبة ، وفي الصلاة لكي يؤديها كما ينبغي . ونراه أثناء الصلاة يمط شفتيه ويلوي لسانه في كل حرف ينطق به لكي يخرجه من مخرجه المفروض – وبهذا يضيع عليه معنى الصلاة ، ولا يبقى لديه منها غير الرسوم والحركات المجردة . إن هذه الحالة تؤدي إلى ظهور عقدة نفسية لدى صاحبها تُسمى ( بعقدة الإستكمال – perfectionism ) وهي ما يدعوها العامة أحيانا بالوسواس . إن هذه العقدة منتشرة في بلادنا انتشارا فظيعا . ولعلي لا أغالي إذا قلت إن من أهم العوامل التي أدت إلى انتشارها في هذه البلاد هي تلك الدقة الشديدة التي يحاول رجال الدين أن يلبسوا الطقوس الدينية بها ) (16) .
وفي الفصل الرابع : خوارق اللاشعور ، هناك معلومة عن الأحلام النبوئية والأحلام التي تتحقق ينقلها الوردي وتقول إن الإحصاءات التي قامت بها جمعية المباحث النفسية البريطانية ، والتي تلقت فيها أجوبة (17) ألف شخص ، أشارت إلى أن نسبة ما صدق من أحلامهم كان بمعدل ( 1 من 47 ) ، ثم يضع هامشا يقول فيه :
( لقد اندهشت كل الدهشة حقا عندما قرأت ما روي عن النبي محمد من أنه قال عن الرؤيا الصادقة بأنها جزء من ستة وأربعين من النبوة . ولعل القاريء سيندهش معي حين يرى التقارب العجيب بين النسبة التي جاءت بها جمعية المباحث النفسية وتلك التي جاء بها محمد ! ) (17 ) .

2014-01-22