الأربعاء 15/10/1445 هـ الموافق 24/04/2024 م الساعه (القدس) (غرينتش)
ما بقي من ماجد أبو شرار 'كتاب لا بد أن يعود'...جهاد الرنتيسي

أدري إن كان الأمر بحثا عن النقاء وسط ظاهرة شاءت الظروف اكتشاف تلوثها في وقت مبكر قياسا بعمري الزمني آنذاك، أم تعبيرا عفويا عن حاجة لعمق فكري احتجته في لحظة تماهي مع اليسار، ورغبة التخلص من آثار تفكير يميني علقت بالذهن، وربما تكون البطالة التنظيمية التي رافقت انفضاضات انتفاضة وضعت على عاتقها تصويب مسار الثورة وتحولت إلى انشقاق سرعان ما أخذ بالتفسخ، أو بفعل كل هذه الأسباب .

شاءت الظروف أن تكون أول المهمات التي أوكلت لي وزملائي مع بداية عهدي مع التنظيم الطلابي لحركة فتح المشاركة الشكلية في حفل لتأبين ماجد أبو شرار أقيم في جمعية الخريجين الكويتية. لم يكن الحدث عاديا. كلمة الجبهة الشعبية تهاجم مشروع الأمير فهد. السفير السعودي يخرج من القاعة محتجا.

لاحظت يومها أن هناك محركا لتلك الفعالية، يعمل بصمت كمن يمسك أطراف الخيوط في مسرح العرائس. علمت فيما بعد أن اسمه عبد العزيز السيّد (أبو إيهاب) (*).

كان السيّد معروفا بقربه من ماجد قبل اغتياله. لا يترك فرصة لحديث ودي عنه، قد يبدأ بالعودة إلى زمالتهما في الصحافة السعودية وربما قبل ذلك، أو التحسر على خسارة نجم بدأ بالظهور في سماء ملبدة بالغيوم، ولا يعدم الانزلاق في التفاصيل. ولم يكن رضا صالح (*) والحلقة المحيطة به يبخلون بإشارات لماجد خلال حديثهم عن الثورة المجهضة، والانتفاضة التي تحولت إلى هوة في مسار طويل من الانحرافات.

زرت عبد العزيز السيد في مكتبه منتصف الثمانينات وأبلغته بنيتي القيام بدراسة عن أبو شرار. شجّع أبو إيهاب الفكرة. جمع ما توفر في مكتبه ومكتبته من مقالات وكلمات ونصوص ومحاضرات مصورة وناولها لي مع وعد بالمساعدة إذا تطلب الأمر، وأمنيات بتوفيق لم يتحقق بعد.

ضخخت ما استطعت من جهد وتفكير في مجلة "الطليعة" الكويتية فيما بعد. تراجعت فكرة الدراسة. تحولت فيما بعد إلى واحد من المشاريع المؤجلة. بقيت وديعة السيد من المقالات والكلمات والشهادات على حالها تنتظر العودة إليها والمباشرة في القيام بالمؤجل، فور تجاوز الأكثر إلحاحا. حملتها معي بين كتب قليلة بعد اجتياح الكويت وتحريرها. تنقلت بين الرفوف في عمّان، وبقيت الفكرة تراوح بين الأولويات.

حرص المرحوم عبد العزيز السيد في أشهره الأخيرة على إعداد كتابه التوثيقي "ماجد أبو شرار .. مسيرة لم تنته بعد" وتوفي قبل إتمامه. كان لي فيه مساهمة متواضعة باعتباري من الجيل الذي تأثر بالشخصية ولم يعرفها عن قرب، وعملت مع الأصدقاء على صدوره.

فاجأتني الصديقة رانية الجعبري ذات يوم بعثورها صدفة على مقالة لماجد حول رواية "ثقوب في الثوب الأسود" لإحسان عبد القدوس، منشورة في صحيفة "المنار" المقدسية خلال ستينيات القرن الماضي. تبين لي بعد بحث في المكتبة الوطنية الأردنية أنها كانت جزءا من سجال شارك فيه عدد من مثقفي ذلك الزمن.

فتح ما عثرت عليه الجعبري كوة في جدار باتت هناك حاجة لتوسيعها ولو بجهد فردي للاقتراب من جوانب غير معروفة لشخصية تفرض إعادة التعرف إليها بين الحين والآخر.

أعقب ذلك بحث بلا نتائج عن مقالات محددة فيما تبقى من أعداد صحيفة "فتح" التي كانت تصدر في الأردن أثناء وجود فصائل المقاومة الفلسطينية في أواخر الستينات وأوائل السبعين وكان لماجد دور فيها.

على مقربة من سبيل الحوريات وسط عمّان مكتبة لبيع الكتب القديمة. يضطر المار أمامها للتوقف أمام عنوان هناك أو هناك، لكني لم أتوقع أن أجد فيها مجلدات لمجلة "الأفق الجديد" التي كانت تصدر في ستينات القرن الماضي، وتنشر النتاجات الإبداعية والتفاعلات الفكرية لجيل ذلك الزمن ومن بينهم أبو شرار.

[لا بد أن يعود كتاب ماجد أبو شرار]

تضمنت المجلدات قصصا لم تنشر في مجموعة "الخبز المر" اليتيمة التي طبعت عدة مرات وارتبط اسمها باسم كاتبها وكأنها جواز سفر يتم تقديمه من خلالها أو اختصاره فيها بعد خروجه من دوامة الضجيج السياسي، ومقالات لماجد وعنه وحول كتاباته، ومشاركات في السجالات التي أغنت الحركة الثقافية والفكرية في ذلك الزمن.

الاكتشاف الذي أخرج تلك النتاجات من دائرة كرنفال الاحتفال بعمان عاصمة للثقافة العربية ـ جاء صدور المجلدات في سياقه ـ إلى فضاءات التعرف على المناخات الثقافية في ذلك الزمن كان أقرب إلى الصدفة هذه المرة. ولأنه كذلك، دلل على كسل في بحث حقيقي، وقلة الاهتمام بدور التراكمات والتحولات الثقافية وأهمية الذاكرة في تشكيل وجدان الشعوب، ومنحها القدرة على الاقتراب من ذواتها.

وكان لافتا للنظر انسحاب ماجد من حركة الإبداع القصصي والنقدي وقت صدور الأعداد الأخيرة التي تضمنتها المجلدات، وترجح مواقيت صدورها أن الانسحاب نتاج الانشغال في مهمات أخرى بعد انضمامه لحركة فتح، مما يعني استحواذ العمل السياسي والإعلامي على الهامش الإبداعي.

بشكل أو بآخر أعيد تسليط بعض الضوء على هذه القصص والسجالات. لكنها لم تجد بعد القراءة النقدية التي تضعها في سياق تطورات الوعي وإخفاقاته وتتيح الاستفادة منها للتعرف على أسباب الانكفاءات المتلاحقة.

[ماجد أبو شرار] أشرت ذات مقالة إلى نزعات غرامشية في سلوك وتفكير أبو شرار رغم معرفتي بتأثره والعديد من أبناء جيله بمناخات الوجودية السارترية. وما زلت اعتقد أن هناك ما يبرر تلك الإشارة إذا وضعنا في عين الاعتبار رؤية غرامشي للوعي والثقافة وقدرتهما على التغيير، وإيمان ماجد بهذه الحقيقة لا سيما وأنه خرج عن إطار ما وصفه غالب هلسا بـ "مثقف منظمة التحرير" ليحاول من خلال موقعه السياسي تغيير صورة المثقف وجوهر وظيفته وعلاقته مع المؤسسة.

أمام هذه النزعات تسقط كأوراق الخريف الصفراء محاولات توظيف أبو شرار التي يمارسها نهج كسيح يبحث عن عكازات، وما تبقى من فصيل يعتقد بقدرته إخفاء الإرادات المتناحرة بين مكوناته، وينكشف نصف مثقف يحاول إخفاء انحرافاته المتلاحقة بتخيل ما يمكن أن يفعله غائب عن متغيرات لا تكف عن الولادات، أو التستر على عجزه عن الانحياز الكلي للجمال بافتراضات وتهويمات تسقط بقليل من التفكير فيها.

2019-02-23