الإثنين 20/10/1445 هـ الموافق 29/04/2024 م الساعه (القدس) (غرينتش)
أين مقابلة "العربية" مع نتنياهو من معايير الصحافة....بقلم جودت مناع

 
خلال ممارستي مهنة الصحافة لم أدرك في البداية كافة المعايير والسياسات التحريرية، لذلك تحملت هيئات التحرير في الصحف الفلسطينية المسؤولية الأخلاقية والمهنية والأمنية عن مضمون الأخبار خلال فترة عدم وجود قنوات فضائية أو محطات إذاعية آنذاك كما هو الحال هذه الأيام.
والشيء الجدير ذكره هنا أنه لا يمكن لأي صحفي القبول بتحرير أو مراجعة المادة الإعلامية من قبل شخص من خارج مهنة الصحافة، لكن يمكن قبول مراجعتها أو تدقيقيها من قبل زميل صحفي ومدير التحرير في القسم.
لذلك يحتم عليّ واجبي كصحفي مستقل ومحاضر جامعي سابقاً أن أنتقد بعض وسائل الإعلام حرصاً على علاقتها بالجمهور.
تتحمّل وسائل الإعلام مسؤولية خاصة تجاه جمهورها في العالم عند الإبلاغ عن النزاعات بما في ذلك الحروب وأعمال الإرهاب والحصار وحالات الطوارئ الأخرى. ويصل الأشخاص في جميع أنحاء العالم إلى خدمات تلك الوسائل للحصول على أخبار ومعلومات جديرة بالثقة. ويتوقعون منها توفير السياق والتحليل وتقديم مجموعة واسعة من وجهات النظر والآراء. وهي بحاجة إلى أن نكون حريصين في تطبيق الدقة والحيادية الواجبة.
وفي كل يوم نشاهد ونستمع لتقارير إخبارية بعيداً عن هذه المفاهيم، نظراً لاتباعها سياسات التحرير في المؤسسة الإعلامية.
ولتشخيص أدق فإن معظم وسائل الإعلام الغربية تكيل بمكيالين، ففي الوقت الذي تحظر في بلادها النشر أو البث على مواد تضر بأمنها القومي، وتشدد على عدم نشر تصريحات لمنظمات أو جهات إرهابية، إلا أنها لا تضع القيود على صحفييها لإجراء مقابلات مع مسؤولين وُصموا بالإرهاب.
لذلك فإن المقابلة التي أجرتها قناة الفضائية "العربية" مع بنيامين نتنياهو رئيس وزراء سلطة الاحتلال الإسرائيلي المفترض تطرح عدة تساؤلات حول ما إذا كانت هذه القناة، أو غيرها من وسائل الإعلام الناقلة لتصريحات نتنياهو المرئية والمسموعة والمكتوبة، تتحمل مسؤولية في انتهاك أخلاقيات مهنة الصحافة من ناحية وخصوصية الجمهور وأمنه القومي.
ووفقاً للقوانين المتعلقة بالإعلام فإن أي وسيلة إعلام على اختلافها تنقل خبراً فيه قذف وتشهير أو مس بالأمن القومي ومشاعر الجمهور يعتبر متهماً أمام القضاء بنفس مقياس التهمة للناشر الأول، والأمثلة كثيرة على ذلك.
خلال دراستي العليا في جامعة ليدز البريطانية نشرت صحيفة العرب اليوم افتتاحية ورد فيها آية من القرآن الكريم تمس باليهود ولا أريد ذكرها هنا، فرفعت منظمات يهودية قضية ضد رئيس التحرير المسؤول الأول عن سياسة التحرير وكاتب الافتتاحية كمسؤول ثانٍ تتهمهما بالتحريض على القتل. والأمثلة كثيرة على ذلك...
يجب على كل وسيلة إعلام أن تحرص على ألا تقدِّم مواد إعلامية تعرّض الأفراد لخطر ضرر إضافي أو التسبب في ضائقة لا داعي لها، خاصة في حال إجراء مقابلات تسوِّق أفكار الإرهابيين.
بالإضافة إلى الاعتبارات التحريرية والأخلاقية ، تفرض قوانين الإرهاب التزامات قانونية على الأفراد - بمن فيهم الصحفيون - للكشف عن معلومات معينة للشرطة في أقرب وقت ممكن عمليًا، وهو ما لا يلتزم به جميع الصحفيين.
وبالرغم من أن بعض المسؤولين في القنوات الفضائية يدركون تماماً وعلى دراية بالإرشادات السارية في المؤسسات الإعلامية الغربية، إلا أنهم يتجاهلون الالتزام بها حرصاً على جمهورهم، والأسباب واضحة وهي سياسة التحرير في هذه الوسيلة الإعلامية أو تلك ممن يعملون في البلدان العربية.
في أوقات الحرب أو الإرهاب أو الطوارئ أو الكوارث، يجب أن تُبقي وسائل الإعلام جميع مخرجاتها قيد المراجعة، ولا سيما إخراج البرامج وإنتاجها (بما في ذلك الأفلام والدراما والكوميديا والموسيقى) والمسارات لتحديد أي شيء قد يُعتقد أنه غير مناسب في ضوء الأحداث .
كما أن تغطية أي حدث نظَّمته منظمات أو مجموعات محظورة معروفة بارتكاب أعمال إرهابية، من أجل تسجيله، يجب إحالته إلى أحد كبار المسؤولين التحريريين. يجب أيضًا أن تتم الإحالة إلى مدير سياسة التحرير والمعايير.
في كثير من تصريحاته يوجه نتنياهو وحلفاؤه تهديدات ضد مواطني فلسطين المحتلة ودول عربية أخرى دون مراعاة لمشاعرهم، حتى وإن أخضعت هذه المقابلة وتم إحالتها إلى سياسة التحرير الخاصة بمدير التحرير في القناة.
وكما هو معرف فإن أصعب أنواع المقابلات هي تلك التي تبث على الهواء مباشرة، لأنه لا يمكن ضبط أو التحكم بأقوال ضيف المقابلة، بالرغم من وجود تقنية تؤخر البث لوقت قصير قبل عرضه على القناة أو بثه من خلال الراديو.
نعلم أن نتنياهو لبق في نسج الكلمات والعبارات السياسية المنمقة، خاصة مع قناة فضائية عربية، كي لا يتحمل مسؤولية قانونية من ناحية أو يحرج القناة ذاتها.
لكن خبراء الإعلام يعلمون حقاً الفريق الذي يديره نتنياهو في حكومته المرتقبة ومنهم بن غفير وسنوتريش المتهمين بالإرهاب، وغيرهم من أعضاء الحكومة اليمينيين الفاشيين الذين يهددون الشعب الفلسطيني يومياً ، لذلك لا يمكن الفصل بين نتنياهو وهؤلاء الأشخاص.
المسؤولية عن بث مثل هذه المقابلات لا تقع على وسيلة الإعلام فحسب بل جهات أخرى معنية بشؤون الإرهاب كالشرطة ووزراة الخارجية والشخصية التحريرية رفيعة المستوى في القناة الفضائية التي يجب أن تستشير مدير سياسات التحرير والمعايير. ففي كل دولة تتبع وسائل الإعلام نهجاً يفرض عليها إحالة أي عمل إعلامي يثير الشك حول تداعياته المحتملة إلى وزير متخصص في وسائل الإعلام الأمنية.
وتنص الإرشادات في قنوات فضائية على أن أي موقف قد يكون فيه موظفوها أو أي شخص آخر يشارك في إنتاج محتوى للوسيلة الإعلامية ملزمًا بموجب قوانين الإرهاب، يجب إحالته على الفور إلى مدير سياسة التحرير والمعايير والاستشارة القانونية للبرنامج.
كما أن أي اقتراح للتواصل مع منظمة أو أفراد في حكومة (أو فرد من أعضاء منظمة) تم تصنيفها على أنها "مجموعة إرهابية" من قبل وزير الداخلية بموجب قوانين الإرهاب، وأي اقتراح للتواصل مع مثل هؤلاء الأفراد أو المنظمات المسؤولة عن أعمال الإرهاب، للمشاركة في برنامجٍ ما يجب إحالة مخرجات المقابلة مسبقًا إلى مدير سياسة التحرير والمعايير.
إن أي اقتراح ببث مواد مسجلة في أحداث مشروعة عندما تكون المجموعات شبه العسكرية كالمستوطنين مثلاَ وسموتريش وبن غفير منها أو المجموعات الأخرى التي لها سجل معروف بالعنف أو الترهيب، يجب إحالتها إلى أحد كبار المسؤولين التحريريين، الذي قد يستشير مدير سياسات التحرير والمعايير بإجراء المقابلة أو عدم إجرائها.
وتنطبق الإرشادات المتعارف عليها في وسائل الإعلام على مواد القضايا المتعلقة بقضايا الأمن والاستخبارات، التي تقع أو قد تقع ضمن شروط قانون الأسرار الرسمية للدولة إلى برنامج الاستشارات القانونية، ومنها أيضاً الاختطاف والرهائن والعقاب الجماعي، ومثال ذلك الاقتحامات اليومية للمسجد الأقصى المبارك والمدن والقرى والمخيمات الفلسطينية التي تدفع ثمناً باهظاً في كل يوم نتيجة لجرائم حرب يرتكبها جيش الاحتلال الإسرائيلي في كل يوم.
وعليه يجب على بعض القنوات الفضائية الالتزام بسياسات تحرير ومعايير أخلاقية وتبنّي العدالة بأن لا تلحق الضرر بالجمهور أو بالأمن القومي، وأيضاً الجبهة الداخلية للبلدان التي تتعرض للحرب، أو الاحتلال كما هو في فلسطين المحتلة. إن ما نشاهده ونسمعه من بعض وسائل الإعلام وضع الجمهور في أزمة ثقة بينه وبين بعض وسائل الإعلام، ويحتاج إلى وقت لإعادة بناء هذه الثقة.
#جودت_مناع
كاتب صحفي وخبير في الدراسات الإعلامية

 

2022-12-16