الثلاثاء 21/10/1445 هـ الموافق 30/04/2024 م الساعه (القدس) (غرينتش)
فراغ ... حنيفة سليمان

جلس الى طاولته التي تآكل خشبها وبدأ يتساقط في نواح كثيرة منها، طاولته التي قدم لها وعدا مرات عدة بأن يقوم على ترميمها، على إعادة الحياة اليها من جديد، ولكن هو يعلم بأنه قد وعدها الا انه كان مشغولا بأمور اهم.

لقد كان يحصي ذكرياته العتيقة التي تجمعت في زاوية ما من ذهنه، يحصيها ذكرى تلو الأخرى، هذه تعنيه فيبقي عليها وتلك لا فيعمل على اتلافها.

لقد كان غارقا في الشرود يحدق في الكتب التي اصطفت في مكتبته، اتخذت لها مكانا ابديا هناك، والتي بدأ يقرأ عناوينها بصمت مطبق ليسأل نفسه:

كيف حدث ذلك؟ كيف وصلت الى هذه الدرجة من الفراغ؟

جعل يبحث عن أجوبة شافية و "معقولة" تقنعه وتعمل على اسكات رنين اسئلته الملحة والتي بدأ يتأفف لكثرتها، الا ان ذلك لم يُجده نفعا ليستسلم لليأس أخيرا، لتعود حلقة الأسئلة للرنين بينه وبين نفسه:

كيف أصبحت اعد ساعات العمل بعد ان كنت اعد ساعات الفراغ والراحة؟

رفع سبابته مشيرا الى القسم الأعلى من جسده متابعا:

وانا الذي كنت ابحث عن نصف ساعة لأختلي بقهوتي السادة مشروب المثقفين لأرشفها "على رواق"؟

كيف استطاعوا الاستغناء عني وعن خدماتي وانا الذي افنيت عمري وعافيتي اكراما لوظيفة كنت احسبها ابدية؟ 

يا لسذاجتي، يا لغبائي كيف رضيت تلقي مبلغا زهيدا املا بحياة رغيدة كيف وكيف وكيف ..... الحقيقة لا أدرى.

انه الداء اللعين الذي أصبح ضيفي الدائم، لا بل واقترح على الإقامة في بيتي وتخصيص له غرفة مستقلة ليراقب تدميري عن كثب، ليراقبني وانا اجمع ما يتساقط مني في كل مرة فأي حياة هذه أي .... ليقطع دابر كلماته صوت ارتطام يده بفنجان قهوته المعتاد والمركون الى يمينه لينسكب بعنف ويلون أوراقه البيضاء بالسواد، ويلبس حروف كلماته ثوب الحداد ويفنيها الى الابد.

نظر الى الزاوية الأخرى ليجده هناك.

نعم انه الضيف ثقيل الدم الضيف الذي كان متربصا له كفأر حذر، او انه يستعد للقيام بعملية أخرى تؤكد قدراته الخارقة في امتلاكه لنفسه ليخرج عن صمته وهدوء عميق قد لفه:

اعلم يا عزيزي بأن كل شيء زائل على هذه الأرض فالبشر راحلون والاحداث عابرة ولا يبقى الا وجهه الكريم.

ورفع اصبعه مشيرا الى اعلى وتابع قوله:

احرص على نفسك جيدا. اجعلني صديقك. استغل كل قطرة من ساعات عمري. اعمل على استغلالي لإسعادك بدلا من ان ادخر لك التعاسة فكر للحظة .. فكر ارجوك.

وانسحب الفراغ الى غرفته التي كان هو قد منحه مفتاحها اغلقها واعطاه إياه ورحل بهدوء قاتل.

2021-02-22