الأحد 19/10/1445 هـ الموافق 28/04/2024 م الساعه (القدس) (غرينتش)
"الربيع الإسلامي" يواصل التطبيع / نبيل عودة

هل اللقاء بين الحضارات او الثقافات هو لقاء ممكن، بينما اللقاء بين المصالح السياسية هو الصعب والمعقد ؟!
حدثت لقاءات سياسية واتفاقات سياسية ، لبعضها كان أثرا سلبيا على الموقف السياسي العربي ـ مثل اللقاء والإتفاق الاسرائيلي المصري ، الذي أخرج مصر من المواجهة وحولها الى وسيط ، أحيانا لا قيمة ولا وزن لوساطتها ولمواقفها السياسية ... بل أكثر من ذلك ،لم يعد لمصر دورا عربيا في أخطر قضية عربية ، وحتى بعد الربيع العربي ووصول الإسلاميين( أكثر فئة بدت معادية للتطبيع والاتفاقات مع اسرائيل) الى السلطة في مصر (وفي تونس وليبيا أيضا) ، مما حول الربيع العربي الى ربيع اسلامي في مضامينه وجوهره ، ظلت مصر على نهج السادات – مبارك في تعاملها مع العنجهبة العدوانية لإسرائيل، هذا دليل على ان ما يقلق الإسلاميين هو السيطرة على السلطة وليس التغيير، وليس فلسطين او الكرامة القومية او مستقبل الشعوب العربية، وهو ما نشهده اليوم من عملية دمج بين الإستبداد السياسي للنظام السابق والإستبداد الديني للنظام الحالي، اي ربيع تحول الى دمج بين الماضي والراهن . الأسلاميون ارادوا ربيعا عربيا باتجاه واحد يوصلهم للسلطة، بعدها سيفرضون نظاما أكثر استبدادا وحرمانا لحرية التعبير، نظاما فرعونيا، وهذا نشاهده اليوم باغلاق محطات تلفزيونية والتضييق على الصحافة المطبوعة، ومحاولات فرض نهجهم على القضاء، والعمل لإقرار دستور بفكر ماضوي لم يعد يتلاءم مع واقع مصر او واقع المجتمعات المدنية المعاصرة.. والحفاظ على التطبيع مع اسرائيل، اليس الأمر مستهجنا ومليئ بالمفارقات الغريبة؟؟ ووصل الأمر من احد قادة اخوان مصر ان يهدد الشعب المصري بسفك الدماء (الجهاد) دفاعا عن الرئيس مرسي. لو كان نظاما يحترم نفسه، لوضع ذلك الدموي البغيض وراء الأسلاك الشائكة ، لعزله عن البشر ولكن يبدو ان النظام راض عن هذه المواقف الدموية.
قد يكون تحييد مصر سبب مباشر وحاسم في اعاقة بناء استراتيجيات العالم العربي الاقتصادية والعلمية والثقافية والسياسية حول قضايا عربية بالغة الأهمية والتأثير على تطور العالم العربي، ان مأساة العراق وواقع لبنان وما يحيط به من مخاطر واستمرار المأساة الفلسطينية وظهور الاسلام الجهادي ، هو نتيجة غياب فعل سياسي عربي مؤثر وقادر على التعامل مع الواقع الدولي والعربي .
اللقاءات والاتفاقات السياسية لم تنجح في التأثير ، كما يظهر حتى اليوم ...على أخطر قوة عربية في المواجهة – الثقافة العربية، من حق ممثلي الثقافة العربية رفض التطبيع في ظل استمرار النهج العدواني المتنكر لحقوق شعب عربي ( فلسطيني) واستمرار قمعه وحصاره وقتل ابنائه عشوائيا، الى جانب العربدة الحربية ضد لبنان ودول اخرى في الشرق الوسط.
الثقافة وقفت بمعارضة كل الاتفاقات ، مثقفو النظام لم يفلحوا في تحقيق تحول ثقافي الى جانب سياسة التطبيع السياسية للنظام المصري التي يواصها الرئيس محمد مرسي.
البعض رأى ان خوف العالم العربي / الشعوب العربية والأصح القول ممثلي الثقافة العربية ... من التطبيع الثقافي مع اسرائيل ، هو خوف مبالغ فيه ، لا قاعدة منطقية له وأن الثقافة العربية تملك أليات متينة ، خاصة وأن الثقافة العربية ذات جذور عميقة في الأرض ووراءها تاريخ عظيم وواسع وممتد من الانجازات التي لا يمكن هزيمتها بالمواجهة مع ثقافات اخرى ، بالأساس مع الثقافة الاسرائيلية التي لا تزال ناشئة وبلا جذور عميقة .
استنتج البعض ان التطبيع الثقافي يجب ان يخيف الاسرائيليين الذين يضغطون ويتحمسون للتطبيع ويرون فيه قاعدة من القواعد الأساسية وألأكثر أهمية للتطبيع الشامل في الشرق الاوسط ، لجعل التطبيع السياسي حقيقة قابلة للتعايش في الشرق العربي ، تتسابق اليها سائر الدول العربية ، وألأهم ان قبول اسرائيل ثقافيا سيعزز حقيقتها الشرق اوسطية، بنفس سياساتها القائمة التي جعلت أكبر وأقوى دولة عربية تتحول الى وسيط ذليل لإسرائيل، كل دورها لا يتعدى تصريحات لا يهتز لها جناح طائرة حربية تقصف منازل المدنيين وتوقع قتلى من النساء والأطفال والشيوخ في غزة او جنوب لبنان.
موضوع التطبيع اثار اهتمام أوساط واسعة من الأدباء وأصحاب الفكر والرأي ولكن الكثيرين مع الأسف تحدثوا من منطلق سياسي عام أو عاطفي أو ديني ، ما زال الموضوع يحتل حيزا من الكتابات والحوار في العالم العربي ... ومراجعة لما ينشر تشير الى ان اكثرية المواقف انطلقت من قناعات سياسية ودينية وعاطفية ، تفتقد للرؤية المتكاملة الموضوعية ولأي منطق فكري يمكن اعتماده كقاعدة للتعامل مع طروحات التطبيع التي تروجها بعض الاوساط السياسية والثقافية المرتبطة بانظمة عربية متحمسة للتطبيع .
رؤيتي ان الموقف من التطبيع في اطار الاتفاقات المذلة ، والحياد المصري والظروف السائدة في الشرق الاوسط ، لا يترك مجالا آخر للمثقفين غير الرفض . . خوفا من ان تتحول ثقافة الأقوى اقتصاديا وعسكريا وعلميا الى الثقافة السائدة والمسيطرة والمقررة.
الموضوع بالغ الأهمية والتركيب ، مليء بالتداخلات المتناقضة والمتماثلة مما برز حتى اليوم في كتابات الرافضين للتطبيع . استغرب غياب اصحاب الشأن من سائر ذوي الاختصاصات الأكاديمية والفكرية من الخوض في هذا النقاش من منطلقات رؤية علمية للمخاطر أو الايجابيات ، اذا وجدت ايجابيات ...
الثقافة ليست وقفا على الابداع الروحي فقط ..وهنا الخطر. الثقافة تشمل كل الابداع المادي للمجتمع، قد يكون خطر التطبيع اعظم شأنا على الجانب المادي في الثقافة – أي الانتاج الأقتصادي والتطور العلمي والاجتماعي للمجتمعات العربية ... بتحويل العالم العربي الى سوق للانتاج الاسرائيلي المادي .
أرى ملامح سلبية في الاقتصاد والتطور الاجتماعي والعلمي في العالم العربي كلة وفي مصر على وجه الخصوص ، بدأت تفرض نفسها ، ربما نتيجة للتطبيع السياسي بين مصر واسرائيل، او بتأثير لا يجوز الاستخفاف به للتطبيع واضيف ان تأثير هذا التطور السلبي سيطول ، أو طال بنسب معينة ، الفكر والابداع الثقافي المادي والروحي.
ان موضوع الحضارة بحد ذاته هو مادة واسعة للغاية ، هناك تضارب في مفاهيمنا الحديثة عن الحضارة ، لكني اطرح وجهة نظري بتعميم وانا على قناعة ان الحضارة في جذورها هي "المدنية " وتشمل كما اوضحت وأكرر مجموعة الانجازات المادية والروحية ، هناك دمج دائم بين مفهوم الحضارة والثقافة . مع ذلك نجد أن المعنى السائد في المجتمعات الدمقراطية الغربية عن الحضارة هو كونها انجازات المجتمع المادية والتكنلوجية ولا يشملون الثقافة بتعريفهم ويستعملون اصطلاح الثقافة للدلالة على القيم الروحية فقط – أي الابداع الادبي والفني والأخلاق والدين .. لذلك من المهم ان نفهم ان صيغة صراع الحضارات تعني في المفاهيم الغربية الصراع بين التقدم الاجتماعي ، العلمي ، الاقتصادي والتكنلوجي العاصف ، وبين مجتمعات متخلفة بمراحل تاريخية مخيفة عن ركب التطور وتعيش على هامش نظام العولمة – على هامش الحضارة ، وبدل المساهمة الحضارية ، تنشأ ثقافة روحية تبريرية متمسكة بالماضوية كطريق آخر في مواجهة المجتمعات الغربية المتطورة – هي ثقافة العجز ، تقود الى العدائية والخوف وكل الظواهر المقلقة التي نشهدها في العالم العربي اساسا ودول اخرى تسودها نفس الثقافة ، تنعكس عالميا في صور بشعة من الدموية المنفلتة .
البروفسور ادوارد سعيد ، في كتابه الهام " الثقافة والامبريالية "ربط بين التطور المادي والتكنلوجي للنظام الرأسمالي – الامبريالي وبين تطور الثقافة .. رؤيته الهامة كانت ان الثقافة كلها هجينة وبمقدار هجينتها يكون ثراؤها ، أي من الصعب الحديث عن ثقافة مجردة مستقلة نشأت خارج الحضارات .اذا كان هذا صحيحا تجاه الثقافة ، فهو أكثر صحة تجاه الحضارة .. التي هي نتاج اؤلئك الذين اوجدوا الثقافة لتشكل مرآتهم الحضارية، لذا ليس بالصدفة ، كما يستنتج ... ان تطور الرواية ( الثقافة ) الانجليزية والفرنسية بهذا الشكل الواسع ارتبط مع نشؤ الامبراطوريتين القديمتين انكلترا وفرنسا ، بينما في امريكا بدأ التطور الروائي ( الثقافي ) مع بداية تطور الامبريالية الامريكية في القرن العشرين (نفس الملامح يمكن ان نشاهدها في تطور الثقافة السوفياتية بعد ثورة اكتوبر ) .. هذا يعني امرا هاما ، بأن للثقافة دورها الاعلامي الشامل الداعم لدولها .. نفس الدور تلعبه ايضا الثقافة الصهيونية ( الإسرائيلية) .. في جذر هذا الدور اظهار بدائية الاعداء وتخلفهم واظهار انسانية الاحتلال – الاستعمار والحضارة التي يبشرون بها "الشعوب المستعمرة والمتخلفة" .
النموذج الاسرائيلي قد يكون اقرب وابرز في اظهار " انسانيتة " !! ليس مستهجنا ان الخطاب السياسي الاسرائيلي له تغطية "حضارية " في الغرب والبكاء العربي على التاريخ والأطلال غير مفهوم وممل ، وكلمتهم لا قيمة لها امام كلمة اسرائيل، يجب البحث عن السبب في الجانب العلمي والتكنولوجي!!
رفض المثقفين العرب للتطبيع الثقافي مع اسرائيل يجب ان يكون في جذوره تشخيص صحيح لحالة الضعف والوهن السياسي والاقتصادي والمدني / الحضاري والثقافي الذي يميز الحالة العربية غير القابلة للتغيير في ظل انظمة قبلية وطائفية.
الظن ان الحضارة العربية ، الضاربة جذورها بالارض والتاريخ هي قوة للثقافة العربية هو مجرد وهم ، ليس فقط لحالة الغربة بين الانسان العربي وثقافته ، انما لاستفحال الجهل والبؤس الاقتصادي والعلمي والتكنلوجي والتخلف في التعليم . ان الفجوة الثقافية بين اسرائيل الصغيرة والعالم العربي آخذة بالاتساع .. حسنا ، هناك دعم أمريكي، لكن اين تذهب الأموال العربية الفائضة ؟ هل يعجز العالم العربي ان يستثمر عشرة مليارات كل سنة في البحث العلمي ؟ هذا الأستثمار سيعود بربح مضاعف على المستوى المادي والمستوى الحضاري ، الإجتماعي والإقتصادي.
قديما رأى العلامة العربي ابن خلدون ما هو صحيح حتى اليوم ، قال : " لغة الأمة الغالبة – غالبة ، ولغة الأمة المغلوبة - مغلوبة " .
ما أخافه ان يفرض التطبيع نفسه قبل نجاح العرب في خلق توازن مدني / حضاري . ولن استهجن ، في هذا الواقع المتردي والعاجز ان تواجه الحضارة العربية ما هو اسوأ من كارثة فلسطين ثقافيا وحضاريا .
توسمنا بالربيع العربي خيرا، ولم نتوقع سيطرة قوى تعيش في الماضي وتعهمل لحمايته دستوريا وتبين من خطواتها الأولى، ان ما يشغلها تحويل السلطة الى احتكار،او جمهورية ملكية ورائية ثيوقراطية، والحفاظ على دور الوسيط الذليل لإسرائيل، دون ان نسمع الا لغوا لا تغطية له،لا يفسر على وجهين، اسرائيل هي ضمانة هامة لتعزيز السيطرة الماضوية على الحاضر العربي.
رغم الصورة شديدة السواد، الا ان انتفاضة اهل مصر ضد فرعون الجديد، تثلج الصدر حقا.
المستقبل الحقيقي لمصر ما زال في ميدان التحرير.

[email protected]

2012-12-08