الجمعة 17/10/1445 هـ الموافق 26/04/2024 م الساعه (القدس) (غرينتش)
محمود المسعدي ورحلة الوجد / مشروع قراءة بقلم فوزي الديماسي

محمود المسعدي سؤال في النثر عنيد ، ونافذة على الشعر ، هو جمّاع نصوص وأجناس ، يراوح مكانه بين المسرح والتراث والفلسفات الحديثة والتصوّف . هو نصّ يبشّر بتواشج الأنا والآخر على أديم الكتابة كسؤال حارق في الوجود المجبول على معانقة الترحال بحثا عن نصّ النّصوص ، هو قلم فتح في النثر فتحا يؤمن بالإنيّة في غير إسراف ، وبالغيريّة دون انصهارغبيّ في الآن نفسه ، هو سؤال في النثر متلبّس بشعريّة مّا ، وهو شعر متوسّل بنفس سردي يطلق العنان لصهوة الدّهشة والحيرة والإضطراب ، هو هذا وذاك ، بل هو أكثر ، كتابته تحيل إلى كون مشحون بالمخاتلة والبحث المرهق كما التصعيد ، هو متن فوق التّصنيف والتجنيس ، كما الأخطبوط امتدادا وتداخلا ، لغته تتجاوز طقوس التواصل لتبلغ بالتجريب والنحت أقصى فضاءات الكدح والمحاولة ، على مذهب الصوفيّة المجنّحة في ملكوت العشق المجسّم في حروف نورانية تائهة في بساتين العشق المطلق ، تتقاطع في ساحة قرطاسه الذات البرّانيّة وأخيّتها الجوانيّة المحمّلة بهموم المأساة في تنوّع مداخلها، وتعدّد مسالكها ، وهو المضطرب على سرير الحرف ، بين عالمين : عالم مافوق القمر ، وعالم ماتحت القمر على مذهب الفلاسفة ، تتقاذفه رياح الأسئلة الأنطولوجية والأخرى الأنتروبولوجية ، وتطوف به على براق المداد رؤيته المحمّلة بضباب سؤال الأسئلة " ما الإنسان ؟ " ، الكتابة المسعديّة صرخة في وجه القعود والسكينة الفكريّة ، وصرخة في مداد الإطمئنان والوثوقيّة ، كما القوافل المحكومة بالسير الأبديّ كتاباته ، إنّها المحاولة والعبث على طريق الوجود رحلته ، ودرب مفخّخ بالنسبيّة المتناسلة أعماله ، لعبة الوجه والقفا : قلمه والسؤال ، إنّه " أبو هريرة " الحرف ، و" غيلان " الرؤى ، و" سندباد " الفكر ، كما السدّ حرفه ، وكما الجبل مداده ، لحظة انعتاق ديدنه ، ونفخة بناء دينه ، كادح على طريق الفعل كدحا ، لعلّه يلاقيه إنسانا صانعا / إلها في ملكوته الترابيّ الموصوف بالنقصان والموت والنسيان والعجز ، كتابته كموج البحر في يوم مطير ، تقذف بك في لجج التفكير كلّما فرغت منها ، كما السراب ، كتابة شموس ، عصيّة على المسك والتقعيد والتحديد ، كما الشعر طعمها لذّة ، وملمسها خيبة وفراغ ، وعود على بدء على أرض السّؤال ، تلك هي اللغة في نصوصه ، حبلى تراقص ألسنة النّار جهرا ، وتنشد الكمال سرّا وعلانيّة ، مدّ وجزر صفتها ، وشطح طقسها ، تحمل بين جنبيها أسباب حياتها وتجدّدها ، كما النهر تجري ، لا تقف لها على قرار ، وكانت مصداقا للقول : " نحن نساق بالطبيعة للموت ، ونساق بالعقل إلى الحياة " ، وكذلك كانت لغته في أعماله ، تدفع بالحياة إلى رحبها دفعا جميلا ، فتعانق الخيال بأجنحة تحلّق بالنصّ نحو فسيح فضاءات اللغة الإستعارية ، الموغلة في الرمزيّة والإختزال والتكثيف غلى مذهب الشعر حينا ، وتلتصق بمعقولية الأشياء واللغة المحايثة في طرق تعاطيها مع راهنية الأسئلة المفصليّة المحيطة بفعل الكتابة كفعل إنسانيّ ملتصق بأرض مّا ، وزمن مّا ، إنّها لحظة تراوح فيها اللغة مكانها بين الشعري كفعل تخييل بامتياز ، والسردي كفعل رصد ومعاينة ، إنّها لحظة مزاوجة بين مطلق القول ( الشعر) ، ومنطقيّة الصياغة المحكومة بقوانين كالسببيّة ومعقوليّة البناء ( السرد ) ، تلك ملامح اللغة المسعديّة ومناخاتها ، لغة حمّالة صراع بين أسباب الحياة وبذور الموت والفناء ، رحلة شاقّة موحشة الدروب ، تطلب الخلود لعلّها تدركه ، مصداقا لقول مدين شحصيّة كتابه " مولد النسيان " : " قامت واهنة الحركة..وجاءت بفاكهة فألقتها على المائدة. ثم جلست وقالت: يا مدين إنه قد ذهب صبري وعيل تجلدي. أفلا نخرج من هذه البلاد؟ وأُسقط في نفسها فتنهدت ، وقالت: تجاوز طاقتي هذا الحر يثقل كالندم، وهذا العفن كالجثث البوالي، وهذه الغدران. وتعلق النتن بالهواء ودخل الحلق مع الأنفاس. وكرهت عيني أن لا تصيب إلا جثث الموتى، ونفسي أن لا يقع لها إلا معاني الموت والفناء، وبرمت بهذه الأرض الندية المسترخية اللخناء. قال: إنه قد مات لي اليوم بالمارستان ميت. قالت: ترى لو أسلمنا للموت أمره وللأموات، وطلبنا لأنفسنا الحياة؟ فألقى إليها ببصر ناحل كئيب وقال: ومتى سهونا يا ليلى عن طلب الحياة؟ انظري حسنك وسلامة جسمك والمائدة بين يديك. إنا لا نفتأ نطلب الحياة ونطعم ونشرب فنهيئ للدود الطعام. ثم أخذ موزة وقشرها ونظر فقال: وسيأتي يوم يسترخي اللحم ويبيض كالموز ويطيب للدود ويكون الختام. قالت: وتريد أن تقتل الموت؟ قال: نعم يا ليلى: ومع هذا أريد أن أقتل الموت لأن الأبد واجب والحياة " لغته رحلته وراحلته ، طيفه وهواتفه ، دربه وفسيح الفضاء ، هي المنطلق والمبتغى ، وآلته في الرحلة والبناء ، تحمل بذور الحياة ، وعلامات الوجد والفناء ، والإنسان في إطلاقيّته كمعطى فلسفيّ خالص هو التخوم المنشودة في أعماله على إختلاف مشاربها ، لغة تحمل همّ السؤال ، وقادح للسير على درب البحث دون إنتهاء ، رسالاته في الكون الإتحاد بمفهوم المفاهيم ، ولغة اللغات الراسمة لملامح الإنسان / الكون ، الإنسان الملائم في هيئته بين وجودية الإفرنجة وحريّة المعتزلة ، ذلك هو الإنسان المسكون بلغة في منزلة بين المنزلتين ، منزلة الطين ومنزلة السماء ، كما الواقف على باب الذكر بأجنحة من نور اللغة ، والبدن منه مسكون بهواجس العاجلة ، كما المعرّي في لزميّاته ، ومثله في رسالة الغفران ، تتقاذفه أسئلة تستبطنها الحروف والجمل والكلمات ، مشدودة إلى اليابسة براهنيّتها ، منطلقة نحو شاهق الأحلام بأهدافها تجسيما لقوله من كتابه " تأصيلا لكيان " حول مفهوم الالتزام في الأدب : ، أمّا معنى الالتزام فعريق في الأدب ، قديم مثل قدم كلّ أدب أصيل وكلّ تفكير صميم ، ذلك أنّ الالتزام في الأدب لا يعدو ( في معناه الصحيح عندي ) أن يكون الأدب ملتزما لجوهريّ الشؤون ، منصرفا عن الزّخرف اللّفظيّ وعن الزّينة الصّوريّة التي هي لغو ووهم وخداع . الالتزام هو أن يكون الأدب مرآة لجماع قصّة الإنسان وخلاصة مغامراته للكيان ، وزبدة ما يستنبطه من أعمق أعماقه وألطف أحشائه من أجوبة عن حيرته وتساؤلاته . هو أن يكون الأدب رسالة الإنسان إلى الإنسان ، رسالة يستوحيها من الجانب الإلهي من فكره وروحه ، ومن هذا الوجدان أو الحدس الإلهيّ الذي هو الفكر وما فوق الفكر ، والعقل ومافوق العقل ، والخيال مع العلم ، والمعرفة مع الانطلاق ، والكيان مجرّبا في كليّته وشموله " لغة كما الرقص في عين الشمس على كثبان النصّ ، إنّها لحظة مكاشفة صوفيّة بامتياز ، ينطلق فيها جسد الخطاب لينسج مناخات خاصّة به تستند إلى لغة متنوّعة المصادر ' ضاربة في قديم التراث / حداثيّة تنهل من نهر الفكر الإنسانيّ / محايثة لراهنيّة الاسئلة ' إنّها لحظة تشكّل لجسد لغة خاصّة بمحمود المسعدي ، تتوسّل بأصوات مختلفة لتبني عوالمها المشحونة بإرادة التّثوير للدّعة والسكينة والاطمئنان والنمطيّة والأفقيّة ، إنّها الشّطح تصعيدا ، والتّبشير بعوالم جديدة تجذيرا وتجاوزا وتقليدا ، هي التخبّط في أحشاء ' الإنسان / اللغة ' تمهيدا لولادة أخرى مغايرة يكون فيها النصّ فضاء لمعاقرة سؤال الأسئلة ' الإنسان / الكيان ' ، كما الماء والطّين في علاقتها بلحظة الصّياغة والتشكّل ، تلك مناخات حلقات الذّكر اللغويّ المسعديّة ، حيث تتداخل فيها أصوات متعدّدة تتلبّس بها لغة حمّالة لهدف الأهداف ' الإنسان ' هذا الكائن الرمزيّ المقيم في العالم ' فضاء النصّ ' إقامة لغويّة على سفر عيشه ، يضرب في أرض النصّ بعصاه ونجيبته وحروفه أسوة بالسّلف ، وطلبا لأجوبة تحوم حول لجج الحقيقة المضطربة المتقلّبة في حيرتها ، هذا الحقيقة الغائبة الحاضرة ، المقيمة المرتحلة ، القريبة البعيدة ، المعاصرة القديمة ، كما الماسك على الماء حال الكاتب ، وكما المنذور للرحلة الأبديّة الرّاوي والمتّسمة حركته بالبحث في طريف الفكر ومتلده ... مركزيّة الإنسان ، وشعوره بامتلاك العالم ، وفهم أحجياته ، هو الدّافع للحياة وتحدّي بذور الموت المتربّصة به في منعطفات الوجود قادحه ، ولغته حمّالة هذه المشاعر ، مشاعر التملّك والتحكّم ، إنّها الإرادة تحرّكه وتدفعه نحو فضاءات الرحلة والتّرحال ، والرحلة إحالة إلى حبّ الحياة والفعل ، ورفض للسكون والقعود والموت ، إنّها لحظة حياة بملء الحياة ، بما فيها من صخب وحركة وبناء يصارع لحظات الإندثار والغياب ، تلك آيات اللغة في عمل المسعدي ، صهوة رحلة دائمة دينها الإنسان / الخلق ، وديدنها إعلان موت الموت / الغياب ، وهدم للوثوقية والقناعة الخادشة لكبرياء الإنسان / سيّد العالم ومحوره ، إنّها لغة انتصار للماء في حلّه وترحاله ، والكائن والكينونة والكيان أثافي لغة المسعدي الباحثة في كلّ الإتجاهات عن مستقرّ لها / الإنسان الحلم على الأرض وفي السماء ، في المادّي والميتافزيقيّ ، ويكبر الحلم في اللغة ومن خلالها على درب رسم معالم لعالم يحتفي بالإنسان / الحياة

2015-11-13