الجمعة 9/11/1445 هـ الموافق 17/05/2024 م الساعه (القدس) (غرينتش)
دير أبو اليتامى في الناصرة - المكان الذي لم يفقد الذاكرة....شوقية عروق منصور

قبل أسبوع   كان الاحتفال في مدينة الناصرة  بسيطاً متواضعاً ، اقتصر على بعض الشخصيات وكان أكثرهم رجال دين من الطائفة المسيحية، المكان  " كنيسة السالزيان " تلك البناية الجميلة والعريقة والتي أطلق عليها   " لؤلؤة الناصرة " و التي يمكن رؤيتها من مسافات بعيدة ، وتقع على أعلى قمة في غرب المدينة . 

مناسبة الاحتفال   مرور مئة عام - 1923 - على إقامة  الكنيسة وأيضاً ما عُرف  " دير أبو اليتامى "  هذا المكان أو العنوان الذي تحول إلى حضن ودفء وإنسانية، وصدى لتاريخ هام في حياة الفلسطينيين - وبعد ذلك تحول الدير إلى مدرسة ثانوية مهنية على اسم " دون بوسكو " مؤسس مذهب السالزيان - . 

مرور مئة عام على مكان ارتدى الوجع والمستحيل في زمن   كان الهلع والذعر والخوف والهرب يسكب جنون غروره  وتلمع نياشين حضور الجيش الإسرائيلي  الذي فتح صناديق أسلحته  وأخذ يجربها على الأعناق والاجساد الخائفة . 

مرور مئة عام على مكان كان شاهد عيان على تنهدات ودموع وجوع وغموض لا يعرف قراءة الدقائق القادمة ، ولا يملك هذا المكان إلا الصلوات وتقديم رغيف الاطمئنان . 

مرور مئة عام على مكان ما زال في ذاكرة البعض شهقة ومهرجان صمت ومرآة لمشاعر وأحاسيس مختومة بجواز مرور الشكر والعرفان . 

عندما كنت أتأمل بناية " دير أبو اليتامى " من بعيد   كنت أشعر بأن  أيدي الملائكة قد ربتت على حجارة المكان وأن دهاليزه قد امتلكت مفاتيح أبواب المشاعر وتسلقت  اهرامات الإنسانية . 

في غرف الوفاء والعرفان لا نملك النوافذ والأبواب، لذلك كان  التساؤل لماذا لم تحتفل بلدية الناصرة  وباقي الجمعيات  الفاعلة بالمدينة  بمرور مئة عام  على بناء هذا الصرح التاريخي  العظيم.

قالت لي أمي  :  بعد أن سمع سكان مدينة  الناصرة عن مذبحة  دير ياسين التي وقعت في قرية " دير ياسين "  الواقعة غربي مدينة القدس في 9 نيسان 1948 ، وراح ضحيتها المئات من النساء والأطفال والشباب والعجزة،  حتى بدأ الخوف يقف وجهاً لوجه مع الواقع المرتعش والمذعور  من المجهول . 

لا حيلة أمام الناس خاصة مع انتشار  الاشاعات عن قتل اليهود للفلسطينيين  إلا الهرب من الناصرة  .. وبدأت السيارات تحمل العائلات وتتجه إلى الشمال أو إلى الحدود اللبنانية . 

جاء شقيق جدي - عم والدتي - وقد كان يملك سيارة كبيرة حيث كان  يعمل  سائقاً عليها  محاولاً اقناع جدي  على الهرب إلى لبنان وكان هذا الشقيق قد وضع زوجته و أولاده في السيارة  مع بعض الحاجيات الضرورية ، لكن جدي نظر حوله ، وإذ  وجوه أولاده  تخط فوق هواء الغرفة سطور قلق ولهفة وغيرة من أبناء العم الذي سيسافرون . لكن جدي حسم مسألة التردد وقال لشقيقه بحيرة وألم  و رضوخ للأقدار : 

-          أين سأذهب بكوم اللحم في لبنان ..؟؟   وأشار إلى أولاده   الثلاثة عشر ..!! ما بعرف حدا هناك  .. !! اللي بصير على الناس هنا بصير علينا!!؟ 

وتركه شقيقه هارباً   إلى لبنان   وهو يردد " يا روح من بعدك روح "  وبقي  جدي منتظراً دخول اليهود إلى  مدينة الناصرة  ، ولكن هناك من أخذ يردد :  سيعملون في أهالي  الناصرة كما عملوا في أهالي  دير ياسين ..؟؟!! 

وبدأ رجال الحارة الذين لم يهربوا في التجمع والبحث عن أمكنة تحمي عائلاتهم ، منهم من توجه إلى الكنائس أما جدي فقد توجه مع جدتي وأولاده الثلاثة عشر   إلى " دير أبو اليتامى " .

وتكمل أمي حديثها .. وما أن دخلوا  من باب البناية  حتى وجدوا عشرات العائلات قد لجئت إلى  الدير ،  والأدهى أن خلال الحملة العسكرية وبعد احتلال مدينة شفاعمرو  سيطر الجيش على قرية عيلوط  وكان ذلك في 10 / 7 / 1948  وقام فيها بعدة مجازر ، فلجأ  قسم كبير من سكان عيلوط  الى الدير - حسبما ذكر كتاب " عيلوط الصمود والاستقرار ص 87 و  171 " أن أكثر من 100 عائلة توجهوا إلى دير أبو اليتامى - .  

و تم تسليم  مدينة الناصرة  للجيش الإسرائيلي ،  وما أن شعر الناس بأن الأمور هدأت وقد نادى المنادى أنهم يستطيعون العودة إلى بيوتهم ، حتى انطلقت كل عائلة إلى بيتها . 

وبقيت والدتي تذكر الدير والأمان الذي شعروا به ، وكيف وفر لهم الأطعمة عدا عن خدمة الراهبات وحرصهن على حياة الناس خاصة الأطفال وتوفير الأغطية والفراش لهم . 

وعندما انتقلت للتعليم في المدرسة الثانوية البلدية في مدينة الناصرة ربطتني صداقة مع إحدى الطالبات  والتي  كانت متفوقة باللغة الإنكليزية ، وقد اعترفت لي أنها تربت في " دير أبو اليتامى " هي وأخوتها بعد وفاة والدتهم وزواج والدها من امرأة رفضت تربيتهم ، واعترفت أن لها عشرات الأخوة  في الدير من جميع الطوائف  وهي لا تنسى فضل الدير  عليها  وعلى اخوتها .. وكنت أسمع منها حكايات وقصص إنسانية تبدو في هذا الزمن كأنها أفلام من عالم البراءة . 

مئة عام على إقامة الدير  أو على الذاكرة المفقودة ، لماذا لا نحتضن الأمكنة ونقول لها شكراً ، لماذا هذا الصمت من عدة جهات ، التاريخ لا يُنسى مهما بقي في طي الصفحات . 

كنت أتوقع أن يحتفل سكان الناصرة  والمنطقة  بمرور المئة عام .. ونوجه رسالة في   هذا الاحتفال للذين يعيشون على الدم والعنف والسلاح ويرتكبون  الجرائم اليومية في المجتمع العربي ، هناك مكان قام بحماية الآخرين ولم يبخل عليهم بالأمان والطعام في زمن الحرب والفقر .. مكان حمل الرسالة الإنسانية ووقع ميثاقاً مع الحياة أنه سيصونها ويحميها من عبثية السلاح . وانتم عقدتم تحالفاً مع الشيطان  ولا نعرف إلى أين سيأخذكم وإلى أين ستؤدي بكم فوهات المسدسات والبنادق. 

2023-09-22