الأحد 19/10/1445 هـ الموافق 28/04/2024 م الساعه (القدس) (غرينتش)
هيبة السلطان !!/عبد الهادي شلا

  كان السلطان في حكايات الليل الشتائية التي حكتها لنا جدتي، بصفات عظيمة وهيبة وشكل وسطوة ترسخت في خيالاتنا حين كنا أطفالا نتحلق حولها لنسمع ما ورثته عن أمها وجدتها دون تغيير أو تبديل. السلطان في الحكاية يملك كل شيء ،ويتحكم في كل شيء،ويقرر مصير الرعية من خير أو شقاء فإما رخاء قادم تستبشر به الرعية وإما سخط وجبروت يصب على رأسها خضوعا لحالته النفسية ومزاجه أو لغبائه.! هكذا كانت الحكايات عن السلطان والحاكم تتناسب مع الوضع العام برمزية وخشية بطشه في وجود (استعمار) بسط يد الجهل تحت مسمى التنوير في جو ضعف مهين.. بينما الحاكم في الحكايات يعيش في رغد ونعيم وسط صمت مطبق من رعية أغرقها في عالم الجهل و عليها تصديق ما يصلها ممن عرفوا سر السيطرة على نفوسها الضعيفة والفقيرة. لم تكن الحكايات تخلو من شجاعة خارقة لبطل يتحدى الحاكم وسلطانه يتعاطف معه العامة ويتابعون انجازاته التي لا يقدرون عليها لثقل همومهم وضعفهم وكأنه يمثل البركان الكامن فيهم فينتصرون لهذا الرمز الشجاع ،وهكذا كنا نستمع لجدتي في حكاية ( علي بابا والأربعين حرامي )،ولقصة (عنترة وعبلة ) وغيرها. كما لم تكن الحكايات تخلو من خيال بأن تقع إبنة الحاكم في غرام الشاب إبن المزارع أو الخادم الذي يعمل في حديقة القصر وتتوالد الأحداث في الحكايات على هذا المنوال بما لا يمكن أن يكون إلا في خيال متعطش لحياة كريمة وسعادة مفقودة. الحاكم مُطاع ،مُستجاب النداء دون نقاش بل هو الآمــِر وهو الناهي بيده كل مقدرات الرعية. هذه أبسط صور الحكايات التي تربى عليها الأطفال في كثير من بقاع الأرض الفقيرة وحتى الغنية منها. فمادام هناك حاكم ..إذا هناك رعية. وإن كان هناك ظالم يكون هناك مظلوم!! يحضرني أوبريت غنائي للفنانة "فيروز" إسمه ( ناطورة المفاتيح ) لمن لم يسمعه أو يشاهده فإن هذا الأوبريت قد رسم الصورة التي آلت إليه الحالة في الوطن العربي تحت سطوة الحاكم والقوى الخارجية منذ سنوات في السبعينيات من القرن الماضي وقبل أحداث ما سمي بــ " الحرب اللبنانية" وكأنه اشتسرف الوضع قبل حدوثه،حيث كان لظلم الحاكم " في الأوبريت الغنائي " وتسخيره رعيته لما يـُرضى رغباته أن تصاعدت الصورة الغنائية وقررت الرعية أن تهجر المملكة ولم يبق فيها غير " الملك " و " زاد الخير " وهي البطلة التي سلمها كل سكان المملكة مفاتيح بيوتهم وأصبحت هي " الناطور" كما أصبحت هي الرعية كلها حين رفضت مغادرة المملكة. وحين شعر " الملك " بالوحدة أخذ يستجدي " زاد الخير" لتصعد إلى القصر لتؤنس وحدته ! قائلا: إطلعي لعندي !! ولكن " زاد الخير" تعرف قيمتها الحقيقية وأنها أصبحت الرعية كلها ،فترد بعبارة قوية: الشعب ما بيطلع.!! ويرد الملك: والملك ما بينزل . وسرعان ما لخص الملك رعيته في كلمتين فيهما من الخضوع ما يكفي للتعبير عن قوة الرعية حين تأخذ موقفا يجرد الحاكم من سلطانه ولو بقي على كرسييه ، مخاطبا: يازاد الخير..يا شعبي العظيم... !!! هذا الحوار يلخص حالة الكثير من الشعوب حين تشتد بها الكروب فتترك بلادها إلى بلاد أكثر أمنا واستقرارا. وفي القصة مغزى واضح وهو أن الحاكم لا يكون حاكما بدون رعية،ولا الرعية بقادرة على تسيير أمورها بلا حاكم " قائد ".. ولكن الشرط هنا أن يكون الحاكم عادلا والرعية تعرف دورها في تنمية وتطوير بلادها. وقد جاء التنبيه الإلهي في شريعتنا ( ألم تكن أرضي واسعة فتهاجروا فيها..) وذلك حين يشتد الظلم على العباد من حاكم طاغية أو فاسد فالهجرة إلى البلاد الأكثر أمنا هي أمر ضروري. وماذا عن حاكم هذا الزمان؟! تغيرت صورة الحاكم من الحكاية إلى الواقع فأصبح ظهوره اليومي عبر الفضائيات للعامة من الشعب بكل حركاته وتنقلاته عبر الوسائط التقنية الحديثة لحظة بلحظة معنى آخر وصورة استقرت في الذهن مخالفة لما في الحكايات. ولأن المنطق وعلم النفس يفسرهذه النقلة النوعية، فإن الفرد الذي كان يخشى سطوة الحاكم قد ألف شكله وصوته وطريقة حديثه وتابع بفكره مابين السطور فأصبح قادرا على الخروج من شرنقة الماضي التي عـَظـَّمت الحاكم وزادت من صورة سطوته وفي البلاد المتقدمة أصبح من الممكن توجيه النقد اللذع للحاكم وأكثر . الظهور الكثير للحاكم كسر الحاجز النفسي بنسبة كبيرة بين ما وقــَر في نفس الشعب وتوجسه وبين حقيقة أن هذا الحاكم ليس أكثر من إنسان وصل إلى سدة الحكم بطريق شرعي وعبر انتخابات قلمت أظافره وقيدته بقوانين وغيرت صورته في الحكايات. بينما في بلاد مازالت تعاني من النوع الآخر من الحكام (أصحاب التوريث ) فإن الحاكم قد أحكم سيطرته على مقدرات البلد بكل ما فيها وثروات ، والنماذج على هذا النوع كثيرة فيما بيننا الآن. ولاشك فإن أدوات اليوم في مجالات الحياة غير أدوات الأمس ، فالحكاية التي كانت تحكيها جدتي ليس لها مكان في زمن جـَدَّت في حكايات وحكايات أغرب من الخيال. فحروب قامت ومذابح تم فيها قتل الآلاف وملاحقات وبطش وتدمير كلها لو عاد بنا الزمن وعدنا أطفالا وأرادا جدتي (رحمها الله) أن تحكيها لنا لما استوعبتها عقولنا الغضة ولا خيالاتنا الصغيرة. سيبقى هناك حاكم،وسيبقى هنا شعب يناكفه بالتظاهرات وبالإضرابات وشل حركة الحياة ،ويأخذ حقه منه فقد تغيرت الحال وأصبحت المناداة بضبط سلوكيات الحاكم محكومة بقوانين وتشريعات ومطلبا تحقق في كثير من البلاد المتقدمة بعد أن دفعت ضريبة غالية في الوصول إليها. والطريق سيبقى مفتوحا أمام الشعوب القادرة على تغيير وتجديد حياتها بالفكر السليم والعمل القويم .

2013-05-21