الثلاثاء 13/11/1445 هـ الموافق 21/05/2024 م الساعه (القدس) (غرينتش)
اسرائيل بين التوراه والتاريخ /بقلم عيسى أبو عرام

بقي علم الاثار في فلسطين علماً اسيراً لمصادر تمويله , وكان عليه تبرير وجوده واستمراره كحقل معرفي من خلال ارضاء تلك المصادر ، كما حولت الحركة الصهيونية من خلال رجالاتها الموزعين في كل جامعه ومركز علمي الجدل الاكاديمي حول تاريخ فلسطين من أروقه البحث العلمي الضيق الي المجال الثقافي والاعلام العام. رافق ذلك ازدياد بالهجرة الصهيونية الى فلسطين استعدادا لاقامة دوله اسرائيل الحديثة وتحويل الجدل حول الماضي الى صراع لكسب الحاضر : وصار التأكيد على تاريخ اسرائيل القديمة تأكيدا على حق اعادة بناء اسرائيل الحديثة وهذا ما اشار الية اعلان دولة اسرائيل عندما استخدم معدوه تعبير( اعاده تشكيل دولة اسرائيل ) .
وعليه من هم اليهود؟
و متى تشكلت الأثنية اليهوديه ومتى نشأت؟
اين وكيف ؟
وهل دانت فلسطين يوم من الايام باليهوديه ؟ ما هي العلاقه بين التاريخ اليهودي الذي ابتدأ قبل القرن الخامس للميلاد  وتارخ مملكتي اسرائيل ويهودا خصوصا في تارخ فلسطين الكبرى على وجه العموم ؟
للاجابة على هذه الاسئلة ومحاوله الرد على الرواية الاسرائيلية ينبغي طرح مجموعه من الافكار بالاعتماد على مجموعه من المصادر التي هي بالاصل مصادر غربية في محاوله لتحليل نتائج اقرب للحقيقه عن تلك الرواية .
بالنظر الى المكان والتاريخ المحددين اللذين خلقت فيهما التوراة او الكتاب المقدس او التلمود لم يكن ذلك المكان عالما اسطوريا لمدن عظيمة وابطال قديسين وانما كانت لا تعدو عن كونها مملكه صغيره ( مدينة) لناس انصاف رعاه ومزارعين  كافحوا من اجل البقاء من جميع المخاوف الانسانية سواء اكانت مخاوف حروب او ظلم او مرض او مجاعه ، لم تكن تلك القصه التاريخية التى ترويها التوراة بدءاً بلقاء ابراهيم  مع الله ورحلته مع كنعان مرورا بتخليص موسى لبني اسرائيل من العبودية وحتى صعود مملكتي اسرائيل ويهودا وانيهارهما وحيا سماويا , بل كانت نتاجاً ادبيا للخيال الانساني الخصب في فترات متباعده من القرون الخوالي قبل الميلاد . كان مسقط تلك القصص كما تروي التوراة مملكة يهودا التى كانت عباره عن مساكن شبه متناثره على حواف الاودية وقمم الجبال تتوصتهم مدينة توسطت الجبال من الشمال الى الجنوب هي مدينة يبوس التى يروى عنها انها كانت بطول 150 يارد في عرض 50 يارد في الاف الثالث قبل الميلاد .
حتى وقت قريب كان النص التوراتي المتأخر قرونا عده عند دمار السامره ويهودا هي الوثيقه الوحيده المتوفره التي تقول ان اهل المملكتين كانوا على المعتقد الارذثوكسي التوراتي كما رسمته اسفار التوراه .
والشواهد الاثرية تقول انه اهل المملكتين لم يكونوا على المعتقد الارذثوكسي الذي تمت صياغته ابان الحقبة الفارسية و لم يوجد اي شاهد يؤكد ذلك و شواهد اخرى تؤكد ان الديانة اليهودية  استمراراً طبيعياً لديانة كنعان في العصر الحديد الاول او ما سبقه و الالهة التى عبدت في فلسطين هي الهة كنعان التقليدية وكل ما تم الكشف عنه في المعابد والمقامات الدينية كانت مقتنيات مكرسة لعبادة الخصب المتأصلة منذ القدم , حيث يقول عالم الاثار الاسرائيلي , "اسرائيل فنلكشتاين" في كتابه التوراه اليهودية مكشوفه على حقيقتها بخصوص ديانة يهودا واصل العباده في هيكل اورشليم بما يلي :-
" ان المؤسسات السياسية و الدينية في اورشليم لم تمارس سلطتها على عامة السكان في المناطق الريفية التى يرويها النص التوراتي الا ان القائمين على ديباجة الاسفار التاريخية لم يراعوا هذه الحقيقة ".
كل الاعتقادات التاريخية تشير بان هيكل سليمان المدعو بالهيكل الاول لم يكن بدوره الا معبدا كنعانيا مكرسا لعباده الاله الفلسطين يهوا و زوجته عشيره، اما يرويه او يقوله  محرروا الثوراه بخصوص الحياه الدينية في المملكتين ماهي الا اسقاطات لا تفيد بالتعرف على الماضي بقدر ما تفيد على فهم التوجهات الفكرية من النفسية التاريخية  للقائمين على عملية صياغة ايديلوجيا التوراه , وان التاريخ الحقيقي للسامره ويهودا هو ملك للتاريخ الثقافي والسياسي السوري الفلسطيني اما السامره و يهودا التوراتيتين فليستا الا نوعا من التوهيمات الادبية التي تحكم عملية سرد التوراه .
في موقع اخر يؤكد التاريخ الاسرائيلي نفسه . ان يهودا لم تكن تتمتع ببرقراطية دولة متطورة بالقياس للامبراطوريات المجاورة في ذلك الزمن  ،بل كانت الطقوس  الدينية موزعه على ساحتين الساحه الاولى كانت معبد اورشليم الذي روت لنا التوراه اوصافا غزيره له ولم يستطيع المؤرخ امتلاك اي شاهد عليه . اما الساحه الثانية فقد شملت منطقه القبائل المتفرقه في المناطق الريفية حيث سادت طقوس تختلف في الكثير من الاحيان عن طقوس المعبد وكلها تتمحور حول عباده الاله يهوا و زوجته عشيرة.
بالندوة التي رعتها جامعه في مدينة شيكاغو الامريكية عام 1999 وكان هدف الندوة البحث في اصول الشعب اليهودي في ظل ازمتة التاريخية التوراتية بالتعاون مع الفيدرالية اليهودية المتحدة لمدينة شيكاغو ،وتم دعوة جميع مؤرخي المدرستين المحافظة  والمدرسة الرديكالية – المحافظين اصحاب التوجهات التوراتية ، والردكاليين الذين عملوا على التفريق الواضح بين اسرائيل التوارتية واسرائيل التاريخية،  والذين نادوا بأن تكون الفرصه متاحه من اجل اعادة القيمة الدينية للتوراة ،  في هذه الندوة التى نقلت ملخصاتها مجلة علم الاثار التوراتي عام 2000 في كوبنهايغن وان المتتبع لمجريات ومحاور الندوة يستخلص التالي :-
- اولا / في كافه الابحاث المقدمة حول ما يدعى بعصر الاباء في سفر التكوين لم يتصدى اي باحث من الباحثين التقليدين ( المحافظين ) للدفاع عن تاريخ القصص والاساطير المتعلقه بابراهيم وسلالته، واكتفى المتحدثين بالتعليق على نظرية وليم اولبرايت القديمة التى تجعل القرن الثامن عشر قبل الميلاد ( العصر البرنزي ) الوسيط  مسرحا لعصر الاباء وذلك  اعتمادا على الربط القائم بين المعتقدات و العادات و التقاليد التي جاء على ذكرها سفر التكوين بكل ما ورد في الاسطورة السامرية و الاكادية في ذلك العصر اي حيث أكدت نظرية اوربرايت ان عصر الاباء التي تمثل في ابراهيم  و اسحق و يعقوب و ارتباطهم باللغة الامورية و هذا ما اكدته الشواهد الاثرية ان عصر البرونزي والوسيط شهد انتشارا كثيرا لأموريين في كافة مناطق الهلال الخصيب .
و قد علق على هذا الرأي بنيامين سومر بالقول " ان الصلة في الواقع المفقود بين احداث سفر التكوين و الفترة التي من المفترض ان يعمل في وصفها ، في الوقت الذي كان يؤكد فيه الفريق الرديكالي التوراتي و على رأسهم "نوزي" حول اسماء الاباء فهي اسماء سامية شائعة منذ اواسط القرن الخامس عشر ق.م  ،اما  فيما يتعلق في خروج بني اسرائيل من مصر ، الخروج كان بقيادة موسى لم يدعي احد في الندوة ان لديه شواهد تاريخية تؤكد وجود العبرانيين في مصر ، و لم يقدم اي من  الحضور شاهدا واحدا تؤكد الرواية التوراتية .
اكد الحضور ان فترة عصر الحديد هي الفترة المفترضة لدخول كنعان واستقرار القبائل العبرانية و كان هذا اتفاقاً بين الحضور .
- ثانياً / استبعاد نظرية الاقتحام العسكري في قيادة "يوشع بن نون" و في هذه الجزئية يقول "بنيامين سومر" ( ان نظرية الاقتحام العسكري لأرض فلسطين من قبل القبائل العبرانية بقيادة يوشع بن نون ) قد عانت الكثير من النقد الجدي و لم يبق سوا قلة من الباحثين  في موقع الدفاع عنها .
- ثالثًاً / اتفق الباحثين على نظرية الاستقرار السلمي حيث اكد الباحث وليم ديفر ( ان مطلع القرن الثاني عشر ، ( عصر الحديد ) شهد جماعات جديدة بدأت في التوطين في فلسطين ( كنعان ) و لم يكن بوسع المرحلة ( الفترة ) اطلاق اسم الاسرائيليين على تلك الجماعة ) و انما استخدم لفظ مقدمات الاسرائيلين . اي الجماعات الاولى التي تشكل منها الاسرائيليون فيما بعد ، ان هذه الجماعات لم تأت  من مصر ولا من غيرها ، بل هي الذخيرة السكانية المحلية وربما انضم اليهم مجموعات من الوافدين الساميين القادمين من مصر ، و لكن الاثار المادية عن قدوم هؤلاء معدومة.
- رابعاً / اختتمت الندوة بجدل حول فترة تدويل  الاسفار الخمسة و الاسفار التاريخية في التوراة . فهل كتبت قبل السبي البابلي ام خلاله  كما يقول الاتجاه المحافظ ، 529 – 333 ق.م ، و اجمع الباحثين في النقاش على ان الاسفار كتبت على الاقل بعد قرنين من احداثها .
في ذات السياق يورد الباحث البريطاني  "فيليب ويفر" تعليقا على مخرجات الندوة بقوله ان الدوافع اللاهوتية تكمن وراء الفشل في تنسيق النص التوراتي في صورة مترابطة  و يبدو هذا اكثر وضوحا في الاتجاه اللاهوتي التوراتي الذي تزعمه "ارنست وايت" الاستاذ في جامعة هارفارد من عام 1959 و الذي كان تلميذا لوليم اولبرايت كما انه كان لاهوتيا شديد التأثير بالكتاب المقدس ،  ان قيمة الروايات التوراتية بالنسبة اليه تكمن في كونها شاهدا على الفعل المقدس في التاريخ حيث جاء عنوان كتابه الله الذي يفعل – يقول فيليب ديفر ان ارنست قدم لنا لاهوتا فجاً وهشاً – الذي ربط بين اسرائيل التوراتية باسرائيل التي نعرفها بالتاريخ – المشكلة انه ربطها بالمجال المعرفي بعلم الاثار اي انه حمل علم الاثار مسؤولية توكيد القيم الدينية بالتوراة ، و هذا اللاهوت يتناقد مع اقوال الباحثين الراديكاليين الذين عملوا على التفريق الواضح بين اسرائيل التوراتية و اسرائيل التاريخية و قد جعلوا الفرصة متاحة من اجل اعادة القيمة الدينية للنص التوراتي الذي يظهر القيم الايدولوجية لمدونيه الذين عاشوا بعد احداث التوراة  بقرون عدة  ،فالغاية الحقيقية للمرويات التوراتية تكمن في شكلها الادبي و الفلسفي و اللاهوتي لا في مدى مطابقتها او معارضتها مع التاريخ .
و عليه :-
ان ما يقوله علماء الاثار بخصوص الجماعات التي شكلت اسرائيل التاريخية ، هي جماعات محلية و ان ثقافتها تعكس ذلك من خلال مخلفاتها المادية – ثقافة فلسطينية لا يمكن تمييزها عن بقية مناطق فلسطين ولا حتى  باقي بلاد الشام ، رغم احتفاظ تلك الجماعات بهامش من الخصوصية نتيجة انماط  اقتصادية بحتة . و انه من المؤكد ان هؤلاء الناس من ينحدروا من سلالة واحدة ( سلف واحد ) جاء من منطقة بلاد الرافدين و لم يخرجوا  من مصر  حاملين معهم ديانة نزل وحيها من خلال تجوالهم في الصحراء كما انهم لا يفتكوا بالسكان المحليين و  حل محلهم .
تأسست هذه الجماعة من خلال اقامة طويلة عاشوا على الرعي و الزراعة و بعض التجمعات الحضرية ، حتى ولد عندهم احساس بنوع من الهوية الاثنية . و قد شكلت تلك المجموعات في النهاية جزءا من مملكتي اسرائيل و يهودا الى جانب جماعات اخرى حضرية جاءت  من خارج المرتفعات ، و النص التوراتي نفسه يذكر في اكثر من موقع في سفر القضاه ان الاسرائيلييون و الكنعانيون قد تشاركوا في اماكن السكن في جميع المناطق و تزاوجوا فيما بينهم بينما يرى محررو التوراة الحديثين ان الاسرائيليين و الكنعانيين شريحتين متمايزتين بشكل حاد  ،باختصار فان نقاد التوراة الغربيين يتحققون الان من عدم اماكنية التوافق بين اسرائيل التوراتية و اسرائيل التاريخية و لكن المسألة بالنسبة لأولئك تكمن في قيمة الكتاب المقدس لا تكمن في تاريخيته ،  رأي ليس علمي بقدر ما هو رأي لاهوتي سياسي و محرروا التوراة ينتمون الى منظومة بحثية تخضع فيها الاراء العلمية لضغوط الجماعات التي تتبنى وجهة نظرها على مواقف دينية و سياسية .

2013-09-25